إجماع على لفظ "سوري"

24 مايو 2016
لوحة للفنان النيوزلندي هاميش ماك أوين (Getty)
+ الخط -
في "البداية" ساد نقاش لغوي لوصف البشر الهاربين من الجنوب الفقير صوب الشمال الغني، وبدتْ الكرة الأرضية في معرض Exit، الذي استند بشكل كبير إلى أفكار الفيلسوف وأستاذ العمارة الفرنسي بول فيريلو، وكأنها كلّها راحلة صوب شمالها، نتيجة كوارث جلها غير طبيعية، إذ إن التغييرات المناخية التي تلتئم من أجلها الدول دوريًا، ليست "مناخية" تمامًا، بل هي في جزء كبير منها نتيجةً لانتهاك الإنسان للطبيعة، انتهاك كانت له أدوات معلومة؛ انتهاك الموارد بكل أنواعها بشتى الطرق. وشتى الطرق تلك بدورها، تعني أيضًا الحروب التي لا يُمكن النظر إليها في أحايين كثيرة إلا من منظور اقتصادي، خاصة في ظلّ عالمنا "المعولم".

النقاش اللغوي كان بين لفظين: لاجئ ومهاجر. من الصحيح أننا في لغتنا العربية، رُحنا منذ عام 1948، أي عام النكبة الفلسطينية، نستعمل باستمرار لفظ النزوح، إلا أن هذا اللفظ باللغة الأجنبية يحملُ في طياته معنىً دينيًا Exode، فهو سِفرٌ وخروج جماعي وهجرة جماعية. كذا انحصر النقاش اللغوي بين اللفظين الآنفين وحدهما. وراحت المنظمات والمؤسسات التابعة للأمم المتحدة، تبثّ على مواقعها الإلكترونية الفوارق "القانونية" الناجمة عن اختيار لفظ من بينهما؛ للّاجئ وضع قانوني تحدده الأمم المتحدة، وتترتب عليه حقوق تضمن الكفاف للشخص الموصوف المنكوب، أمّا المهاجر، وبقطع النظر عن دوافع هجرته وظروفها، فيبدو "طبيعيًا" في عالمنا المعولم.
وربما كان لصورة الطفل السوري "عيلان عبد الله" الأثر الكبير في حسم النقاش اللغوي، السفسطائي في كل الأحوال، واختيار كلمة "لاجئ" مرةً وإلى الأبد، كي يستعملها الإعلام في مواجهة ما بات "أزمة" كبرى؛ أزمة اللاجئين.

المقتلعون من ديارهم والمهجرون والمنزّحون قسرًا، غدوا أكثر من الكثرة تواترًا في الظهور في الإعلام، والأرقام المرعبة لأعدادهم الهائلة، لم تقنع على ما يبدو أيًا من الساسة في عالم اليوم، للتوقف والتفكير ولو لدقيقة واحدة. كذا فإن المعارض والندوات والمؤتمرات التي تلتئم دوريًا للحديث عن "أزمات" كوكب الأرض، تميلُ باستمرار للاجتهاد اللغوي، ولا تهتم بأصل "المشكلة" أو أسباب "الأزمة".

ومنذ أيام قليلة، استضافت هيئة الإذاعة البريطانية الممثلة الأميركية أنجلينا جولي، التي لا يخفى كيف كرّست نفسها لـ"الإنسانية"، كي تتحدث عن انهيار "النظام" نتيجة لأزمة اللاجئين. لا ينقص شيء جولي، ليكون وصفها للأمر وتعبيرها عنه صحيحًا ومشرّفًا إلى هذا الحد. لا ينقص شيء جولي، خاصّة الشجاعة، إذ تتوجه لأبناء جلدتها كي يعترفوا بمسؤوليتهم أيضًا: النكث بالوعود والعهود، وسياسة الكيل بمكيالين، وغياب العدالة أو انتقائيتها. ومن الأفضل ألا يقارن المرء بين الممثلة الأميركية أنجلينا وأي ممثلة أو ممثل من أبناء جلدتنا، فمن شأن مقارنة مماثلة تحريك سكاكين عن قصد في جروح عميقة مفتوحة، إن أردنا الاستنئناس بالقول الفرنسي المأثور.

وعطفًا على بلاد الغال، فقد عُقد منذ أيام قليلة "مهرجان الكلمة" بنسخته الثانية عشرة في مدينة "لا شاريتيه سور لوار" la Charité-sur-Loire. إذ إن هذه المدينة الصغيرة لها سمعة وصيت مهمّان في عالم الكلمة، إذ تضم مكتبات عامّة كثيرة ومكتبات بيع وفيرة، فضلًا عن محافظتها على مهنة تجليد الكتب يدويًا وبطريقة حرفية تقليدية، أمور كان لها الأثر الحاسم في ابتكار نشاطات متنوعة تدور كلّها في فلك الكتاب وصناعته.

لذا كان منسجمًا ومتسقًا مع تاريخ يدور "حول الكتب" كتاريخها، ابتداع "مهرجان الكلمة" من قبل جمعية اسمها "كلمة وكلمات". كان ذلك في عام 2005، أي قبل أن تزداد حدةً حركة الانتقال من جنوب الأرض صوب شمالها، الأرقام مفزعة في هذا المجال، إذ وفقًا لأنجلينا جولي، فإن أزيد من ستين مليونًا من البشر "تحركوا" خلال الأعوام المنصرمة، هربًا من جحيم "الجنوب".

وليس سرًا أن للسوريين حصّة كبرى في هذه الحركة. أصلًا لم يعد من أي سرّ أو مفاجأة تخصّ وضع السوريين، فالإعلام ينقل أحيانًا، وأحيانًا لا، (إذ للملل دوره في ذلك، حيث إن خمسة أعوام من البث المباشر للمأساة الهائلة التي لمّا تنتهي، تصيب "المتلقي" بالملل). يجد أحيانًا أن ثمة وجاهة في جعل السوري خبرًا أولًا، وأحيانًا أخرى يجد الوجاهة نفسها في خبر آخر، أكثر جذبًا للـTrafic والـTrends، كرأي سخيف لممثلة مغمورة مثلًا، أو تصريح عنصري لسياسي مقيت. كذا فإن الأمور، حين تخص السوري، تخضع للانتقاء والاختيار والغربلة. ومن المستحيل تقريبًا الإجماع على شيء يتعلّق بالسوريين، بل ثمة من يتردد ويسأل إن كانوا أصلًا ضحية أم لا.

مع ذلك، فإن الإجماع المنقطع النظير تقريبًا، كان سيد الموقف في مهرجان الكلمة، إذ لم يجد المؤتمرون الفرنسيون كلمة أكثر تعبيرًا عن عام 2016 من كلمة لاجئ.
المساهمون