قلّاع الأظافر، رجلٌ ضخم الجثة، بدين، رأسه كأنّه طلع الشياطين، لو دسّ إصبعه في المحيط الأطلسي لنجَّسه، ونفقتْ حيتانه. وقفَ على منبر جامع قباء، في صلاة الجمعة، وهو أكبر مساجد المدينة، واستعرض الوجوه التي شخصتْ إليه كأنّ على رؤوسها الطير، فأرتج عليه، و تحجّر لسانه، وانقطع عن رأسه النور. فهوى العقل الغرور، حسب قانون السقوط الحرّ.
أي كلمات أعدَّها للمشهد؟ ربما شتائم، أو الدعاء للسيد الرئيس القائد. سقط عقله بسهم ـ أو بطعنة رمح غير مرئي، وبقي الطير على الرؤوس، وطالَ الصمت، صعد مُصلُّون لإسعافِه، فدفعهم ونزل، وشقّ طريقه مثل محراث في أرض صلبة، وخرج، ولم يدخل بعدها الجامع أبدًا. وكان مدرسٌ للغة العربية قد سبقه في المصير تقريبًا، ففي إحدى خطب الجمعة غابَ الخطيب، فطلبوا متبرّعًا يخطب، ورشح مصلُّون مدرس العربية، فنهض مذعورًا، روحه في حلقومه، لكنه في الطريق إلى المنبر شاخ، وسقطَ مثل شجرة ليمون قصفت ساقها العرجاء. صعد إثره فتى في الصف السابع، وتلا آيةً، ثم قرأ حديثًا، صلَّى بعدها المصلُّون سعداء بخطبةٍ بسيطةٍ ونضرة، ليس فيها لغو ولا نفاق، وكانت سابقة. بينما أُسعف المدرس إلى أقرب طبيب.
لا تشبه حكاية حفيد نمرود أيًا من الوقائع الكثيرة، التي كانتْ احتلالًا من أبناء الريف لمساكن أهل المدينة، الذين استقبلوا الناس وأسكنوهم في بيوتهم، من غير سؤال عن طوائفهم أو عشائرهم. ثمّ صدر قانونٌ يجعل المستأجر مالكًا، فالأرض لمن يفلحها، والبيت لمن يستأجره، والسلطة لمن يغتصبها. ومع أيام الجمر، ارتفع منسوبُ التضخّم المالي، الذي فاضَ مع سكِ صورة الرئيس على العملة، وارتفعتْ أجور البناء وظهرت العشوائيات، ولم تعد تكفي أجرةُ البيت المغتصب لأجرة سيارة!
ذكّر بقصّة النمرود: "قَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ". وينقل مفسّرون عن نهج البلاغة أنّ نُمْرُود بْنُ كَنْعَانَ - عَدُوُّ اللَّهِ - نحتَ تَابُوتًا وَجَعَلَ لَهُ بَابًا مِنْ أَعْلاهُ وَبَابًا مِنْ أَسْفَلِهِ ثُمَّ صَعدَ إِلَى أَرْبَعِة نُسُورٍ ثُمَّ أَوْثَقَ كُلَّ نَسْرٍ بِقَائِمَةِ التَّابُوتِ ثُمَّ جَعَلَ فِي أَعْلَى التَّابُوتِ لَحْمًا شَدِيدَ الْحُمْرَةِ فِي «أَرْبَع نَوَاحِي التَّابُوتِ» حِيَالَ النُّسُورِ ثُمَّ جَعَلَ رَجُلَيْنِ فِي التَّابُوتِ فَنَهَضَتِ النُّسُورُ تُرِيدُ اللَّحْمَ فَارْتَفَعَ التَّابُوتُ إِلَى السَّمَاءِ. وفي روايات أنه أخذ معه رمحًا ... !!
اكتشف أهل المدينة أنّ الفتوّات الجدد، وهم فئاتٌ واختصاصات، قد احتلّتْ البنايتين الحديثتين الوحيدتين، التي عمَّرهُما الاحتلال الفرنسي! وهما مبنى الصحة ودار السينما التي قتلتها الفضائيات. فكانت الفتوّات تداوي كلّ مريضٍ تسوّل له نفسه الحلم بالحرية. وفي الدار الثانية، تقومُ الفتوّات بإخراج أفلام مرعبة، لم تدُرْ في خلد هيتشكوك. وصنعت مطبّين صناعيين أمام الدارين، تخفيفًا للضجّة أو خوفاً من عملية انتقامية. ولا يعرف أحدٌ متى خطر للفتوّة المناضل العنيد ضدّ الصهيونية والإمبريالية احتلال بيت الله .. جلّ جلاله؟
كانَ مرتادو المسجد يقلُّون ويكثرون، في موجات، وأجيال، فما تلتهمه التيارات الفكرية اليسارية، يعود به الدعاة الجدد من أمثال عمرو خالد، وعمرو عبد الكافي، والنابلسي. فالكثير من الناس كانوا يفضلون أحاديثَ الدعاة على مسلسلات الدراما والكوميديا. فسؤال الكينونة والخليقة، والوجود الغامض لا تجيب عنه مسابقات من يربح المليون، التي يخسر فيها الجميع.
حاولَ بداية أن يسكن مع عائلته في إحدى الكنائس الخمس التي أُغلقت، بعد أن هاجر النصارى بطوائفهم الخمس إلى المدن الكبرى؛ كاثوليك وسريان وأرمن وبروتستانت وكلدان. فالمسيحيون يستشعرون بسرعة نوايا رأس المال، وقدمه. لكنّ حفيد نمرود لم ينجح. استطاعت الكنيسة، مع وجودها على بعد آلاف الأميال، منعه من احتلال الكنيسة الكبرى. يجدر بالذكر أنه لم يبقَ في المدينة سوى مسيحية واحدة عجوز، زعم المتظاهرون الأوائل، أيام "الشعب السوري ما بينذل"، أنها تشارك في المظاهرات. والحقّ أنها كانت تتفرّج لا أكثر، بما بقي في عيونها من نور. المهم أنه قرّر تغيير الخطة إلى السكن في بيت الله حسب القاعدة الاشتراكية، ولم يكن للمسجد فاتيكان يحميه!
الجامع كبيرٌ، وفيه حديقة صغيرة، عريقة تعلو فيها أشجار النخيل والسنديان، وترى من مسافة جيدة. وكانت الأشجار قد نمتْ لأنّ المصلين، قبل نصف قرن، كانوا يتوضؤون بالأباريق بين يدي الشجرة. وفيها بركة يمكن لصبي أن يلهو فيها. وهكذا حمل أبو نضال إبريق المتة، وهي أهمّ متاعه على الإطلاق، وسكن في الشقّة الصغيرة التي بنيت يومًا، من غير تقديرٍ أو تخطيطٍ لأحد الغرباء.
طلب غريبٌ تائبٌ من الإمام، أن يقضي أيامه الأخيرة بجوار الله، لاجئًا. حاول الإمام أن يقنعه بالآيات والأحاديث، بثواب العمل إلى جوار العبادة، وأغراه ببيتٍ من غير أجرة، بل إنه رغَّبه في الحجّ على حسابه. لكن الرجل بكى ورجا وتضرّع فسكن فيها، ثم وجد له حفيد نمرود، تهمةً من "بنك" التهم التي لا يوجد فيها سوى تهمة واحدة. وقلعَ أظافره بتهمة التطرّف والسلفية. مع أن الرجل مكث في الجامع سبع سنوات أو ثمان، من غير أن يخرج من الجامع مرة واحدة، ولا يعرف ماذا تعني السلفية. توقّع الحفيد أن تفر ّالناس من الجامع، كما يفرّ الأصحاء من المجذوم، لكنهم لم يبالوا به. وكثرتْ في اليوم الأوّل زيارات توابيت الموتى الذين أقبلوا على الجامع، يودعون الحياة بصلاة الجنازة.
لم ينم أبو نضال في الجامع، سوى ليلة واحدة، هي ليلة الجمعة. وفي اليوم التالي قرّر أن يخطب إمامًا في الناس ووقع ما ذكر أعلاه، وقرّر لأسباب مجهولة منها؛ كثرة الجنائز التي ذكَّرته بهادم اللذات ومفرق الفتوّات، أو هو المشهد الرهيب الذي رآه وهو على المنبر، أن ينتقلَ للإقامة في مكانٍ آخر هو الحديقة العامّة! بعد أن سقطتْ على رأسه تفاحة نيوتن! إنها الجاذبية الأرضية يا بروتوس!
واتهم مستأجرها من البلدية بالإرهاب من غير سلفية، واستولى على المقهى، وقد سرّ مؤجرها، بصفقة خروجه من التوقيف بتنازله عن العقد!
يمكن تلخيص ما يعرف من النهايات، فالنهايات مفتوحة، وتتوّلد عنها بدايات جديدة؛ هي أن حفيد نمرود، طُرد من سلك الفتواّت الرسمي، ليسَ بسبب فساده، فهو فضيلةٌ تشجّع عليه الدولة المقاوِمة للإمبريالية، وتحض عليه، لكن بسبب حسدِ زملاء المهنة، فصادروا أمواله، وهي أموال الشعب، فخسر نسوره، واللحم الأحمر. استخرج رخصةً لبيع الطوابع، في إحدى المظاهرات، اكتشف المتظاهرون الفتية، أنه وطني ومقاوم ومعادٍ للإمبريالية، و يصوّر المتظاهرين بعدسةٍ سريةٍ، فعلّقوا له مشنقةً بعمود الكهرباء، ثأرًا لسبع وعشرين ضحية برصاص غير مطاطي، حي، غير ميت. ونكاية بالصهيونية!
ملاحظة أولى من دفتر اللوغاريتمات الإلهية: البصلُ أسرع النبات إجابةً، وقلع الأظافر، حسب نيوتن، يؤدّي إلى سقوط براميل من أشجار غير مرئية في السماء.
ملاحظة ثانية: إن كرامة الإنسان في أظافره، فما حكّ قيدك مثل ظفرك!
لا تشبه حكاية حفيد نمرود أيًا من الوقائع الكثيرة، التي كانتْ احتلالًا من أبناء الريف لمساكن أهل المدينة، الذين استقبلوا الناس وأسكنوهم في بيوتهم، من غير سؤال عن طوائفهم أو عشائرهم. ثمّ صدر قانونٌ يجعل المستأجر مالكًا، فالأرض لمن يفلحها، والبيت لمن يستأجره، والسلطة لمن يغتصبها. ومع أيام الجمر، ارتفع منسوبُ التضخّم المالي، الذي فاضَ مع سكِ صورة الرئيس على العملة، وارتفعتْ أجور البناء وظهرت العشوائيات، ولم تعد تكفي أجرةُ البيت المغتصب لأجرة سيارة!
ذكّر بقصّة النمرود: "قَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ". وينقل مفسّرون عن نهج البلاغة أنّ نُمْرُود بْنُ كَنْعَانَ - عَدُوُّ اللَّهِ - نحتَ تَابُوتًا وَجَعَلَ لَهُ بَابًا مِنْ أَعْلاهُ وَبَابًا مِنْ أَسْفَلِهِ ثُمَّ صَعدَ إِلَى أَرْبَعِة نُسُورٍ ثُمَّ أَوْثَقَ كُلَّ نَسْرٍ بِقَائِمَةِ التَّابُوتِ ثُمَّ جَعَلَ فِي أَعْلَى التَّابُوتِ لَحْمًا شَدِيدَ الْحُمْرَةِ فِي «أَرْبَع نَوَاحِي التَّابُوتِ» حِيَالَ النُّسُورِ ثُمَّ جَعَلَ رَجُلَيْنِ فِي التَّابُوتِ فَنَهَضَتِ النُّسُورُ تُرِيدُ اللَّحْمَ فَارْتَفَعَ التَّابُوتُ إِلَى السَّمَاءِ. وفي روايات أنه أخذ معه رمحًا ... !!
اكتشف أهل المدينة أنّ الفتوّات الجدد، وهم فئاتٌ واختصاصات، قد احتلّتْ البنايتين الحديثتين الوحيدتين، التي عمَّرهُما الاحتلال الفرنسي! وهما مبنى الصحة ودار السينما التي قتلتها الفضائيات. فكانت الفتوّات تداوي كلّ مريضٍ تسوّل له نفسه الحلم بالحرية. وفي الدار الثانية، تقومُ الفتوّات بإخراج أفلام مرعبة، لم تدُرْ في خلد هيتشكوك. وصنعت مطبّين صناعيين أمام الدارين، تخفيفًا للضجّة أو خوفاً من عملية انتقامية. ولا يعرف أحدٌ متى خطر للفتوّة المناضل العنيد ضدّ الصهيونية والإمبريالية احتلال بيت الله .. جلّ جلاله؟
كانَ مرتادو المسجد يقلُّون ويكثرون، في موجات، وأجيال، فما تلتهمه التيارات الفكرية اليسارية، يعود به الدعاة الجدد من أمثال عمرو خالد، وعمرو عبد الكافي، والنابلسي. فالكثير من الناس كانوا يفضلون أحاديثَ الدعاة على مسلسلات الدراما والكوميديا. فسؤال الكينونة والخليقة، والوجود الغامض لا تجيب عنه مسابقات من يربح المليون، التي يخسر فيها الجميع.
حاولَ بداية أن يسكن مع عائلته في إحدى الكنائس الخمس التي أُغلقت، بعد أن هاجر النصارى بطوائفهم الخمس إلى المدن الكبرى؛ كاثوليك وسريان وأرمن وبروتستانت وكلدان. فالمسيحيون يستشعرون بسرعة نوايا رأس المال، وقدمه. لكنّ حفيد نمرود لم ينجح. استطاعت الكنيسة، مع وجودها على بعد آلاف الأميال، منعه من احتلال الكنيسة الكبرى. يجدر بالذكر أنه لم يبقَ في المدينة سوى مسيحية واحدة عجوز، زعم المتظاهرون الأوائل، أيام "الشعب السوري ما بينذل"، أنها تشارك في المظاهرات. والحقّ أنها كانت تتفرّج لا أكثر، بما بقي في عيونها من نور. المهم أنه قرّر تغيير الخطة إلى السكن في بيت الله حسب القاعدة الاشتراكية، ولم يكن للمسجد فاتيكان يحميه!
الجامع كبيرٌ، وفيه حديقة صغيرة، عريقة تعلو فيها أشجار النخيل والسنديان، وترى من مسافة جيدة. وكانت الأشجار قد نمتْ لأنّ المصلين، قبل نصف قرن، كانوا يتوضؤون بالأباريق بين يدي الشجرة. وفيها بركة يمكن لصبي أن يلهو فيها. وهكذا حمل أبو نضال إبريق المتة، وهي أهمّ متاعه على الإطلاق، وسكن في الشقّة الصغيرة التي بنيت يومًا، من غير تقديرٍ أو تخطيطٍ لأحد الغرباء.
طلب غريبٌ تائبٌ من الإمام، أن يقضي أيامه الأخيرة بجوار الله، لاجئًا. حاول الإمام أن يقنعه بالآيات والأحاديث، بثواب العمل إلى جوار العبادة، وأغراه ببيتٍ من غير أجرة، بل إنه رغَّبه في الحجّ على حسابه. لكن الرجل بكى ورجا وتضرّع فسكن فيها، ثم وجد له حفيد نمرود، تهمةً من "بنك" التهم التي لا يوجد فيها سوى تهمة واحدة. وقلعَ أظافره بتهمة التطرّف والسلفية. مع أن الرجل مكث في الجامع سبع سنوات أو ثمان، من غير أن يخرج من الجامع مرة واحدة، ولا يعرف ماذا تعني السلفية. توقّع الحفيد أن تفر ّالناس من الجامع، كما يفرّ الأصحاء من المجذوم، لكنهم لم يبالوا به. وكثرتْ في اليوم الأوّل زيارات توابيت الموتى الذين أقبلوا على الجامع، يودعون الحياة بصلاة الجنازة.
لم ينم أبو نضال في الجامع، سوى ليلة واحدة، هي ليلة الجمعة. وفي اليوم التالي قرّر أن يخطب إمامًا في الناس ووقع ما ذكر أعلاه، وقرّر لأسباب مجهولة منها؛ كثرة الجنائز التي ذكَّرته بهادم اللذات ومفرق الفتوّات، أو هو المشهد الرهيب الذي رآه وهو على المنبر، أن ينتقلَ للإقامة في مكانٍ آخر هو الحديقة العامّة! بعد أن سقطتْ على رأسه تفاحة نيوتن! إنها الجاذبية الأرضية يا بروتوس!
واتهم مستأجرها من البلدية بالإرهاب من غير سلفية، واستولى على المقهى، وقد سرّ مؤجرها، بصفقة خروجه من التوقيف بتنازله عن العقد!
يمكن تلخيص ما يعرف من النهايات، فالنهايات مفتوحة، وتتوّلد عنها بدايات جديدة؛ هي أن حفيد نمرود، طُرد من سلك الفتواّت الرسمي، ليسَ بسبب فساده، فهو فضيلةٌ تشجّع عليه الدولة المقاوِمة للإمبريالية، وتحض عليه، لكن بسبب حسدِ زملاء المهنة، فصادروا أمواله، وهي أموال الشعب، فخسر نسوره، واللحم الأحمر. استخرج رخصةً لبيع الطوابع، في إحدى المظاهرات، اكتشف المتظاهرون الفتية، أنه وطني ومقاوم ومعادٍ للإمبريالية، و يصوّر المتظاهرين بعدسةٍ سريةٍ، فعلّقوا له مشنقةً بعمود الكهرباء، ثأرًا لسبع وعشرين ضحية برصاص غير مطاطي، حي، غير ميت. ونكاية بالصهيونية!
ملاحظة أولى من دفتر اللوغاريتمات الإلهية: البصلُ أسرع النبات إجابةً، وقلع الأظافر، حسب نيوتن، يؤدّي إلى سقوط براميل من أشجار غير مرئية في السماء.
ملاحظة ثانية: إن كرامة الإنسان في أظافره، فما حكّ قيدك مثل ظفرك!