أيها المقاوم.. ﻻ تتعجل
الحياة ليست مفاوضات، على الرغم من توفر المساحة لنعتها بسلسلة شبه ﻻمتناهية من التوافقات والتواطؤات. لكنها، في المجمل، ﻻ ترتبط بالمفاوضات، ولا تنحصر فيها. بل يمكن ذلك، فقط، إذا ما أريد لها ذلك، في تصريحٍ سياسيٍ، أو في عنوان كتاب.
بعد الحروب، أو خلالها، في مراحل إغلاق صفحاتها، أو السعي إلى ذلك، يتم الركون عادةً إلى التفاوض. هكذا جرى العرف في حيز الصراعات العسكرية. وفي الحالة الفلسطينية، للمفاوضات تأويل آخر، أو تم التعرف إلى المفاوضات، بادئ الأمر، في ظروفٍ أخرى، بعد ثورة، يقال فيها، تغزلاً لا نقداً، إنها الأطول حديثاً، وقع التفاوض، من كوبنهاغن إلى مدريد، من ثم واشنطن فأوسلو. هذا بعد أضواء عربية عديدة، شديدة الاخضرار تجاه "الأخت" إسرائيل، بزغت أمام قيادة منظمة التحرير، مؤشرةً أن تفاوضي، وتفاوضي، وتفاوضي.
ثم ليس من المهم إن حققت مفاوضاتك شيئاً، هذا الضوء البادئ من كامب ديفيد السادات، إلى التئام الإخوة العرب على الصفح عن الصهيونية، أو التمهيد لذلك، التقطه أصحاب نهج أوسلو وأمعنوا إبداعاً في تكليله قسرياً فوق رؤوس الفلسطينيين.
لكن، ما يُعاش فلسطينياً، منذ بدء عدوان إسرائيل الأخير، والحالي، على قطاع غزة، نسق جديد من التفاوض، لم يعتد عليه الفلسطينيون، بل يمكن القول إنهم لم يُعَودوا عليه.
في هذه الجولة من التناحر بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، نشهد فاتحةَ عهدٍ جديدٍ في الوعي السياسي الفلسطيني، بعد أن هضم انسحاب 1982 من بيروت، وتعايش مع دخول قيادته في عام 1993 إلى غزة وأريحا أولاً، لم يعد هذا الوعي قادراً على ابتلاع التطور الحاصل لجهاز الإدارة الذاتية والتنسيق الأمني، ليصير جهاز وساطة، حلقة وصل، بين نظام العسكر في مصر، و"كابينت" العمليات العدوانية الإسرائيلية على غزة، من جهة، ومطالب الشعب الفلسطيني، المحمولة عبر وجوه مقاومته، من جهة أخرى.
الحرب الحالية جديدة، ليس في عدوانيتها، ولا بالصمود الفلسطيني فيها فقط، بل جديدة بمعنى بيئة الأداء السياسي التفاوضي.
مطالب حيوية، تمس جوهر احتياج سكان القطاع المحاصرين، بتفاعل ديناميكي مع الصواريخ الصاعدة من الرمال، أحدهما يُجلل الآخر، لكن بصعوبات يخلقها الوسيط، لا الخصم فقط، بينما قيادة المقاومة تعبر عن مطالب شعبها، تتمسك بها، تتفاوض حولها وليس عليها، الهدنُ تعددت وطالت، وسط تعنت الوسيط وقومه من عرب "الاعتدال"، ومزايدات لا تهدف إلا لتقليل شأن ما هو بعيد عن يد ومصلحة عرب أخرين "ممانعين". ليتضح أنها تجربة المفاوضات الأكثر حدة وجد عربياً، نظراً لحملها مطالب شعبية، ليست نخبوية، ولا خاضعة لتوافقات إقليمية، وسط بيئة غير صديقة بشكل من الأشكال، ولا حتى محايدة.
وكما هو التراكم أحد سمات التجربة الصاروخية الفلسطينية، التي أتت سابقة على تجربة الدولة، ومكذبةً لتجربة ما يُطلقُ على نفسه مجتمعاً مدنياً، متنعماً بالتمويل "الديمقراطي" الـ"نيو-ليبرالي"، ليدافع عن لونٍ واحدٍ من الفعل، ما هو إلا بعض الغناء والصراخ، معنوناً لنفسه بـ"المقاومة السلمية"، مضجراً للذائقة الفلسطينية، جميلة الزغاريد لانطلاق الصواريخ، حفيظة التكتم على منابع الأنفاق، أتى التراكم في تجربة التفاوض، ليبني علاقة جديدة بين الفلسطيني والمفهوم الذي طالما لم يرق له، وارتبط بنكسات وكبواتٍ هو في غنى عن الاستزادة منها.
أبرز دلالات العلاقة الجديدة مع المفهوم الذي لوث، وانبلاج فهم شعبي مغاير لما كان سابقاً تجاهه، نَزعُمُ تلمس تصالح الشارع الفلسطيني مع ما يطرح من طرف مقاومته، وعندما تتوفر هذه السمة، أي الثقة بالمفاوض، وعدم التذمر من طولِ ما يخوض في أحد ساحات الصراع، يتوافر للمفاوض ما يزيح عنه ثقل هم الشارع، والتبرير له. فلا تتعجل أيها المقاوم، انظر إلى نبض شعبك، وابقَ حازما.