أين يذهب الأزرق؟

13 يناير 2020
حسام ضرار/ مصر
+ الخط -
صافرات القطارات تدوّي من بعيد، عالية مزعجة كخلفية مُكملة تليق باليوم. الزحام والأصوات المتداخلة، والحقائب المنتشرة بطول الرؤية؛ بالكاد استطاع الحصول على منضدة في بوفيه المحطة المكتظ. منضدة صغيرة بجانب النافذة نصف المفتوحة المغبشة. اقترب بالكرسي من النافذة ليتمكّن من رؤية المارين والداخلين إلى البوفيه.

الجو حار، والمراوح المعلقة في السقف لا تحرك حتى الهواء. ضجيج، وصياح، وبكاء هستيري حوله يأكل ما تبقى في روحه. يشعر بضغط دمه يرتفع. صداع يقبض على منتصف رأسه وينز بلزوجة على عينيه. يضع حقيبته الوحيدة بين قدميه جيدًا. يشعل سيجارة، وهو يواصل التطلع عبر النافذة. يفك أول أزرار قميصه، ويحاول التقاط أنفاسه بهدوء. يتطلع للساعة الكبيرة المعلقة على الجدار جانبه. الوقت يمضى بسرعة جنونية، يحاول ألا يتوتر؛ لكن سرعة هز قدمه تزداد دون أن يتمكن من إيقافها.

لمحها تأتي من بعيد، تهرول، يبدو عليها الفزع والتوتر، تحمل حقيبة على كتفها، وأخرى كبيرة تحاول أن تمر بها بين الزحام، هب من مكانه وأشار إليها عبر الزجاج الداكن، تراه فتقترب من النافذة ليتناول منها حقائبها، وتتجه هي لباب البوفيه لتدخل.

كانت شاحبة، شعرها متناثر حول رأسها، تحاول أن تعدله بكفيها المهتزتين. حاولت الابتسام له لكنها لم تتمكن، ظلت صامتة بعدها وهي تُثبت نظرها في طرف المنضدة الصغيرة أمامها. تنظم أنفاسها كمحاولة لأن تهدأ. تناولتْ سيجارة من علبته وأشعلتها بيد مهتزة، تسحب نفسًا عميقًا وهي تحاول أن تهرب بعينيها من عينيه، شعر بثقل يزداد فوق صدره، مد يده ليربت على كفها فانتفضت بشدة. "آسف لم أقصد". تنظر له بعين دامعة، وهي تلتهم السيجارة بشراهة.

"أرني ماذا أعطوكِ"؛ رفعتْ كفَّها بتذكرةٍ صغيرةٍ مطويَّة. فتحتها، ليظهر لونها البرتقالي. وعلى الرغم من كل ما يشعر به إلا أنه ابتسم لها قائلًا "جيد. هذا جيد جدًّا"، شعر بفرحة تسري داخله، يبتسم لها بشحوب خمنتْ هي معناه.

"وأنتَ؟" بصوتِها المرتعش الخائف تسأله. ترددتْ قبل أن تسأل كأنما لا تريد أن تعرف حقًّا. أخرج التذكرة من جيب قميصه العلوي. ظلَّ قابضًا عليها قليلًا قبل أن يفتحها أمامه، كانت زرقاء داكنة، كانتْ تتوقع ما ستراه؛ وإن ظلَّتْ تأمل. شعرتْ بروحها تُسحب منها، شهقتْ وهي ترجع للوراء تاركةً دموعها لتنهمر فجأة. كان السواد ينتشر في مجال رؤيته، سحابةٌ داكنة تتصاعد من الأطراف لتأكل محيط رؤيته. لم يجد ما يقوله، ظلَّ ينظر إلى اللون أمامه والرؤية تُضبب أمام عينيه، لمح بالكاد الساعة المعلقة، ومدَّ يده الميتة ليمسك بكفِّها المرتعش.

"لا وقت، أرجوكِ". تحاول التوقف عن البكاء، وهي تشعل سيجارة جديدة. "البرتقالي جيد، جيد جدًّا. ستتحركين لمنطقة آمنة، لا ضرر، لا تخافي". كان صوته يخرج بصعوبة. جفاف شديد يغلِّف لسانه، ودقات قلبه تتسارع بشدَّة. الحروف تخرج منها متناثرةً، متآكلة. لم يفهم منها شيئًا، اقترب منها أكثر، وهو يقبض على كفِّها بين أصابعه بشدَّة: "لا تخافي، ولكن لا تعطيهم شيئًا، لا تسمحي لهم بأخذ أيِّ شيءٍ منك قبل الوصول".

"وأنت.. أنت ماذا ستفعل؟". "لا تقلقي. لا أحد يعلم أين يذهب الأزرق، ربما كان مكانًا جيدًا"، يحاول الابتسام وهو يتكلم إلا أن وجهه المتيبس فشل في هذا. كان يريد إشعال سيجارة أخرى؛ إلا أنه لم يتمكن. ظلَّ ماسكًا كفَّها، محاولًا السيطرة على ارتعاش جسده المجنون.
"سأبقى معك"؛ بالكاد سمعها، وفهم ما تقول. هو يعلم أن هذا مستحيل، وهي تعلم، فهز رأسه نفيًا بشدَّة: "لا. ستركبين قطارك، لن يسمحوا لأحد بالبقاء. على الأقل أعلم إلى أين تتجهين، وهذا جيد".

كانت دموعها تغرق وجهها وتتساقط عبر ذقنها الصغير. وجهها يشحب وينطفئ، صمتتْ كلُّ الأصوات في أذنيه، لم يعد يسمع أيَّ ضجيج، أو صياح؛ فقط صوت تنفسها المتقطع، وحروفها المهشَّمة التي تتناثر منها. أراد أن يضمَّها بقَّوة. أن يحتضنها ويطمئنها؛ لكنَّه لم يتمكن من الحركة، دوامة من ظلام تلفه وتبتلعه داخلها. دوار، ورغبة في القيء، ورغبة مميتة في البكاء. إلا أنَّ دموعه ظلَّت معلَّقة في عينيه.

الصوت الآلي الرتيب يأتي عبر ميكروفون المحطة مزعجًا، مقبضًا: "على أصحاب التذاكر البرتقالية فقط التوجه لركوب القطار على رصيف 3. سيتحرك القطار في تمام العاشرة. على أصحاب التذاكر البرتقالية فقط التوجه لركوب القطار على رصيف 3. سيتحرك القطار في تمام العاشرة".

نظر إلى الساعة أعلى الجدار فوجدها العاشرة إلا عشر دقائق. انتهى الوقت منهما، وسترحل. ظلَّ ينظر إليها دون أن يجد ما يُقال. كان الضجيج حولهما يتعالى ضجيجًا مختلطًا بصياح وبكاء وعويل. هستيريا من الجنون أصابت الجميع. أمسك يدَها وهمس: "لابدَّ أن تتحركي". لم تسمعه، لكنَّها فهمتْ ما يقول.

انتفضتْ مكانها فجأة والتفتت لتتشبث بمن يجلس خلفها: "إلى أين يذهب الأزرق؟ أرجوك". يزيحها الرجل خلفه بعنف وهو ينظر إلى الأمام دون أن يرد. يتعالى صوتها بشدَّة: "ليخبرني أحد إلى أين يذهب الأزرق. أرجوكم". كان ينظر إليها ولمحاولاتها المجنونة الأخيرة دون أن يفعل شيئًا. كأنما يشاهد مشهدًا من فيلم. صوتها يخرج متآكلًا عبر نشيجها المتصاعد.

ترى أحد الحراس الذين يملأون المكان يمرُّ أمام النافذة في الخارج. تهبُّ فجأة لتقفز عبرها، قبل أن يتمكن من منعها. يسمعها تهتف به: "إلى أين يذهب الأزرق؟ لتخبرني أرجوك". يمسكها من ذراعها بقسوة ويصيح: "لا شأن لكِ بهذا، الآن موعد اللون البرتقالي". تصرخ فيه بجنون: "لابدَّ أنَّك تعلم. أرجوك. لتخبرني أرجوك". يقفز هو عبر النافذة ليمسك بها من كتفيها ويسحبها بعيدًا عن الحارس الذي كان يتأهب لضربها بكعب سلاحه، يشدُّها بعيدًا ليلصق ظهرها بالحائط؛ وهو يلهث. كانت ترتجف، شحب وجهها تمامًا، وتناثر شعرها على رأسها وأمام وجهها.

يرى أحد الحراس بداخل البوفيه يسحب حقائبهم بعيدًا. لسانه يرفض الحركة والكلام. ينظر إلى عينيها الذابلة. والعالم من حوله يزداد ابتعادًا. يقترب منها ليهمس في أذنيها بخفوت دون أن تسمعه وهو يحتضنها داخله. "النداء الأخير لأصحاب التذاكر البرتقالية. سيتحرك القطار بعد دقيقتين".

يمسك بيدها الصغيرة ويسحبها خلفه دون مقاومة، لا يشعر بها كأنها تحولت لطيف. يتجه للقطار المتوقف على الرصيف 3. ينظر لكفِّها الآخر ليرى التذكرة المكرمشة بين أصابعها. يتخطيان الزحام والضجيج، ليصلا إلى آخر عربة في القطار.

الجنود يسدُّون آخر الرصيف، والصياح المجنون حوله يتعالى. يتوقف معها أمام الباب الأخير المزدحم. يبتسم أخيرًا شبه ابتسامة وهو يحتضنها ثانية. يهمس لها ببطء في أذنها مرَّةً أخرى، قبل أن يدفعَها عبر باب القطار المتحرك بما قاله لها منذ قليل: "اللون الأزرق يذهب للسماء".

*القصة من مجموعة "مسيح باب زويلة"، الفائزة بجائزة ساويرس– فرع شباب الأدباء عن القصة القصيرة لـ 2020

المساهمون