لا أعرف إن كان توفيق الحكيم يهمّ أحداً من القرّاء العرب أو الكتّاب العرب، فقد غاب اسمه تماماً، أو قريباً من التمام عن صفحات الثقافة العربية منذ زمن بعيد ونُسي أمره. وقلّما يُذكر في معارض الكتب، أو في ندوات المسرح، أو في مناقشات واقتراحات القراءة.
والظاهر أنّ هذا كان حاله منذ وقت بعيد، إذ يكتب غالي شكري في مقدّمة كتابه "ثورة المعتزل": "إن موقفي من توفيق الحكيم اتّسم بسلبية واضحة. فإنني لم أكتب عنه مقالاً واحداً، ولم أكن أقرأ له بانتظام"، وهو يعزو هذا الموقف إلى التزمّت العقائدي الذي منعه من قراءة الحكيم أو تقييم أدبه.
والحقيقة أن تاريخ الكاتب محيّر في الوضع العربي، فهو مشهور جدّاً، وغير مقروء جدّاً بالقدر نفسه، وأحد أسباب شهرته وتجاهله في الوقت نفسه يعود إلى الشائعات، فقد انتشر الخبر عن أنه من أولئك الكتّاب المنعزلين الذي لا تعنيهم شؤون الشعب والوطن، ولا يهمهم أن يشاركوا في مهام التغيير أو الإصلاح، أو النضال ضد الطغيان والاستغلال، وقد اختار بدل ذلك أن يمضي إلى العزلة، أو العيش في ما عُرف باسم البرج العاجي.
كأنما غاب اسمه عن صفحات الثقافة العربية منذ زمن بعيد ونُسي أمره
هذه واحدة من الشائعات التي شاعت بين أبناء جيلنا، وكانت عبارة البرج العاجي تستدعي توفيق الحكيم أوّلاً، وقد يكون للتوقيت دور كبير في التأثير على مزاج القرّاء، إذ شهد النصف الأول من القرن العشرين نهوضاً، أو محاولة جدية للنهوض، في العالم العربي كلّه. وما كانت الثقافة المناضلة التي حاولت أن تشارك في عملية التحرّر تستطيع أن تتسامح، أو تتقبّل كاتباً يدعو إلى ما يشبه الفن للفن. واللافت أن توفيق الحكيم لم يكن يدعو لهذا، بل إن مسرحه بشهادة ناقد مثل محمد مندور، تدخّل في معظم القضايا الاجتماعية والسياسية التي تهم بلاده، ولدينا كتاب ضخم للحكيم عنوانه "مسرح المجتمع" ومعظم التمثيليات فيه تعالج قضايا اجتماعية. هذا فضلا عن أن أدبه لاقى خلافات في القراءة بين النقّاد، ويمكن أن نقول تضارباً في الآراء، والطريف أنها لم تُحسب له، بل حُسبت ضدّه أحياناً، ولدينا على الأقل أربعة نقّاد عرب اختلفوا في تفسير مسرحية "أهل الكهف"؛ مثلاً: محمد مندور، وجورج طرابيشي، وغالي شكري، ومحيي الدين صبحي.
هل كان لآراء الكاتب التي سجّلها بجرأة في كتبه مثل "زهرة العمر" و"سجن العمر" و"راهب الفكر" وغيرها دور في ترسيخ صورته التي أراد أن يقدّمها للمجتمع والقرّاء؟ أم أن الصراعات الأيديولوجية كانت وراء زجّه في البرج العاجي، أي في العزلة والانكفاء؟ وهناك من يتهمه بازدراء النساء، مثل جورج طرابيشي، بينما يدافع محيي الدين صبحي عن موقفه، فهل كان لرأيه الذي ذكر فيه أنه حين كان في فرنسا، كان يفضّل الذهاب إلى المتحف على أن يرافق امرأة، على بعض الكتّاب العرب، لا بفضل دفاعهم عن المرأة، بل لأن الثقافة العربية كانت قد وضعت الشرق في إهاب الذكر، وحشرت الغرب في صورة الأنثى، في لحظة اللقاء بين شاطئَي المتوسّط.
هل كان الحكيم ضحية الذكورية العربية؟