13 نوفمبر 2024
أين أخطأ مسعود؟
بعد أكثر من أربعة عقود من قيادة العمل السياسي الكردي في العراق، خلفاً لوالده الملا مصطفى البارزاني (1903-1979) انطوت صفحة رئيس إقليم كردستان، مسعود البارزاني، بعد مغامرة فاشلة جديدة لإنشاء دولة مستقلة. وبدل أن يغدو بطلا للاستقلال الكردي كما كان يشتهي، انتهى مسعود مهزوماً منبوذاً، وهو يحاول استعادة حلم والده الذي عمل، هو الآخر، على إنشاء دولة كردية في مهاباد (إيران) عام 1946 (وهو للمفارقة العام الذي ولد فيه مسعود) إلا أن هذه الدولة لم تعمر أكثر من عشرة أشهر، وسقطت نتيجة تسويات روسية – أميركية، استغلها شاه إيران للزحف على مهاباد.
منذ ربع قرن، ومسعود لا يدع مناسبةً إلا ويستغلها لتحقيق حلم الاستقلال، ففي 1991 أطلق انتفاضة كبرى ضد حكومة بغداد، مستغلا ضعفها وهزيمتها في حرب تحرير الكويت. وحصل عام 2003 نتيجة تحالفه مع القوى الشيعية التي حكمت عراق ما بعد صدام حسين على إقرار منها بحكم شبه كامل لإقليم كردستان، كما استغل الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، التي لعب فيها دور جندي المشاة لقوات التحالف الدولي، للتوسع خارج حدود الإقليم، فسيطر على كركوك وغيرها، مطلقاً عبارته الشهيرة "حدود المنطقة ترتسم اليوم بالدم".
في شهر يونيو/ حزيران الماضي، وبعد انتهاء معركة الموصل، وجد البارزاني الظرف مؤاتيا لإعلان الاستقلال، وضرب 25 سبتمبر/ أيلول موعداً لذلك. وقد تحكمت دوافع عديدة بقراره، منها الشخصي، حيث أراد أن يعود رئيسا للدولة الجديدة، بعد انتهاء ولايتيه، الأولى والثانية، وتمديد السنتين الذي حصل عليه عام 2013 رئيسا لإقليم كردستان. كما أراد مسعود أن يذكره التاريخ بطلاً للاستقلال الكردي، بعد أن فشل كل زعماء الكرد في تحقيقه على مدى قرن. اعتقد أيضاً أن نجاحه في انتزاع الاستقلال سيكرسه زعيما مطلقا للكرد، خصوصا مع غياب خصمه الأبرز جلال طالباني، وأن أكثرية العرب السنة سوف يدعمونه من باب أن فيهم من "يفضل العيش رعايا في دولة كردية على أن يعيشوا في دولة تحكمها إيران"، كما قال أحدهم. أما حكومة بغداد فظن البارزاني أن انشغالها بطرد "داعش" من مدن أعلى الفرات وغيرها سوف يمنعها من التفكير في اتخاذ إجراءات ضده. إقليمياً، رأى البارزاني أن العلاقات الوثيقة التي أنشأها مع تركيا، خصوصا استثماراتها الاقتصادية الكبيرة في الإقليم، وتحالفها السياسي والأمني معه لمواجهة حزب العمال الكردستاني كفيلة بتحييدها. أما إيران فلن تجرؤ هي وحلفاؤها على التحرّك ضده، فواشنطن لهم بالمرصاد، كما فعلت مع صدام عام 1991. الأهم من هذا كله أن البارزاني كان يتوقع دعما أميركياً كاملا مكافأة له على ضريبة الدم التي دفعها الأكراد في الحرب على "داعش".
كانت كل هذه الحسابات خاطئة، فغرور مسعود وأوهام القوة التي شعر بها حجبت عنه بعض أبسط الحقائق كما هي، فالقوى الكردية كانت أكثر انقساما مما تبدو عليه بكثير، حتى أن بعضها رفض استقلالا يأتي على يد البارزاني، فيما بعضها الآخر مرهونٌ كليا للخارج. أما رئيس الحكومة، حيدر العبادي، فقد وجد الفرصة سانحة لتسجيل "نصر" جديد، يضاف إلى "نصر" الموصل، يعزّز به مواقعه على أبواب انتخابات مفصلية، يواجه فيها عتاة الجناح الإيراني بين التيارات الشيعية في العراق. أما تركيا فقد كانت توصلت وإيران منذ أغسطس/ آب الماضي إلى اتفاق مفاده أكراد سورية في مقابل أكراد العراق. لكن الخطأ الأبرز الذي وقع به مسعود، كما وقع به أسلافه من قادة الكرد، قراءته المواقف الدولية التي مثلت صدمة بالنسبة إليه، عبّر عنها في خطاب التنحّي. لقد طرأ تطور كبير على تفكير الغرب خلال السنوات الأخيرة، لم يلحظه مسعود، باتجاه تعزيز مركزية الدولة (statism) ورفض التفتيت. برزت هذه النزعة في اسكتلندا، كما في كتالونيا، حيث رفض الاتحاد الأوروبي دعوات زعمائها التوسط مع مدريد بعد إجراء الاستفتاء على استقلالها، وتركوها وحدها تواجه مصيرها المحتوم، كذلك فعلت واشنطن، في رسالة مفادها بأن التفتيت يعني الفوضى، ولدى العالم ما يكفي منها.
منذ ربع قرن، ومسعود لا يدع مناسبةً إلا ويستغلها لتحقيق حلم الاستقلال، ففي 1991 أطلق انتفاضة كبرى ضد حكومة بغداد، مستغلا ضعفها وهزيمتها في حرب تحرير الكويت. وحصل عام 2003 نتيجة تحالفه مع القوى الشيعية التي حكمت عراق ما بعد صدام حسين على إقرار منها بحكم شبه كامل لإقليم كردستان، كما استغل الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، التي لعب فيها دور جندي المشاة لقوات التحالف الدولي، للتوسع خارج حدود الإقليم، فسيطر على كركوك وغيرها، مطلقاً عبارته الشهيرة "حدود المنطقة ترتسم اليوم بالدم".
في شهر يونيو/ حزيران الماضي، وبعد انتهاء معركة الموصل، وجد البارزاني الظرف مؤاتيا لإعلان الاستقلال، وضرب 25 سبتمبر/ أيلول موعداً لذلك. وقد تحكمت دوافع عديدة بقراره، منها الشخصي، حيث أراد أن يعود رئيسا للدولة الجديدة، بعد انتهاء ولايتيه، الأولى والثانية، وتمديد السنتين الذي حصل عليه عام 2013 رئيسا لإقليم كردستان. كما أراد مسعود أن يذكره التاريخ بطلاً للاستقلال الكردي، بعد أن فشل كل زعماء الكرد في تحقيقه على مدى قرن. اعتقد أيضاً أن نجاحه في انتزاع الاستقلال سيكرسه زعيما مطلقا للكرد، خصوصا مع غياب خصمه الأبرز جلال طالباني، وأن أكثرية العرب السنة سوف يدعمونه من باب أن فيهم من "يفضل العيش رعايا في دولة كردية على أن يعيشوا في دولة تحكمها إيران"، كما قال أحدهم. أما حكومة بغداد فظن البارزاني أن انشغالها بطرد "داعش" من مدن أعلى الفرات وغيرها سوف يمنعها من التفكير في اتخاذ إجراءات ضده. إقليمياً، رأى البارزاني أن العلاقات الوثيقة التي أنشأها مع تركيا، خصوصا استثماراتها الاقتصادية الكبيرة في الإقليم، وتحالفها السياسي والأمني معه لمواجهة حزب العمال الكردستاني كفيلة بتحييدها. أما إيران فلن تجرؤ هي وحلفاؤها على التحرّك ضده، فواشنطن لهم بالمرصاد، كما فعلت مع صدام عام 1991. الأهم من هذا كله أن البارزاني كان يتوقع دعما أميركياً كاملا مكافأة له على ضريبة الدم التي دفعها الأكراد في الحرب على "داعش".
كانت كل هذه الحسابات خاطئة، فغرور مسعود وأوهام القوة التي شعر بها حجبت عنه بعض أبسط الحقائق كما هي، فالقوى الكردية كانت أكثر انقساما مما تبدو عليه بكثير، حتى أن بعضها رفض استقلالا يأتي على يد البارزاني، فيما بعضها الآخر مرهونٌ كليا للخارج. أما رئيس الحكومة، حيدر العبادي، فقد وجد الفرصة سانحة لتسجيل "نصر" جديد، يضاف إلى "نصر" الموصل، يعزّز به مواقعه على أبواب انتخابات مفصلية، يواجه فيها عتاة الجناح الإيراني بين التيارات الشيعية في العراق. أما تركيا فقد كانت توصلت وإيران منذ أغسطس/ آب الماضي إلى اتفاق مفاده أكراد سورية في مقابل أكراد العراق. لكن الخطأ الأبرز الذي وقع به مسعود، كما وقع به أسلافه من قادة الكرد، قراءته المواقف الدولية التي مثلت صدمة بالنسبة إليه، عبّر عنها في خطاب التنحّي. لقد طرأ تطور كبير على تفكير الغرب خلال السنوات الأخيرة، لم يلحظه مسعود، باتجاه تعزيز مركزية الدولة (statism) ورفض التفتيت. برزت هذه النزعة في اسكتلندا، كما في كتالونيا، حيث رفض الاتحاد الأوروبي دعوات زعمائها التوسط مع مدريد بعد إجراء الاستفتاء على استقلالها، وتركوها وحدها تواجه مصيرها المحتوم، كذلك فعلت واشنطن، في رسالة مفادها بأن التفتيت يعني الفوضى، ولدى العالم ما يكفي منها.