أوفريرا

01 ديسمبر 2014
هما لا يتركان الآيباد (Getty)
+ الخط -
البرد قارس والنافذة مقفلة. العاصفة الجويّة تستريح قليلاً قبل أن تستعيد نشاطها. في الداخل، أنتقل من مقعد إلى آخر. أحصي ساعات يوم الإجازة الطويلة والمملّة في منتصف الأسبوع.

فجأة، يعلو الصراخ في الخارج. أصوات أطفال ترتفع. أحاول التركيز أكثر لأدرك ما الذي يدفعهم إلى الصراخ وأفكّر بسبب تواجدهم في الخارج وسط هذا الطقس البارد. يستمر الصراخ وأنا متسمّرة في مقعدي. أقاوم حشريتي لكي لا أندفع إلى النافذة، لكن من دون جدوى.

أفتح النافذة المتعرّقة بفعل حرارة المدفأة في الداخل والحرارة المنخفضة في الخارج. أشعر بالهواء يلفح وجهي قبل أن أخرج رأسي من الطابق الخامس. أولاد الجيران يهرولون في موقف المبنى، ليختبئ كل منهم خلف سيارة، ويحل سكون تام، قبل أن يعلو صوت أحدهم قائلاً: "1، 2، 3... أوفريرا (فتّح عيونك)"، وينطلق في مهمّة البحث عن أصدقائه المختبئين، ويعلو الصراخ عند عثوره على كلٍّ منهم.

لم يملّ الأطفال الذين لا يتجاوز أكبرهم الحادية عشرة من عمره، من إعادة الكرّة والصراخ لنحو نصف ساعة. وأنا من نافذتي أراقبهم بدهشة: هل ما زال هناك أطفال حقاً يلعبون "الغميضة"؟ نسيت البرد مثلهم ورحت أستعيد صراخنا أطفالاً في الحارة، نجتمع بعد المدرسة فور إنهائنا طعام الغداء. لدينا ساعة للمرح قبل بدء الدرس.

كان مكانَنا المفضل طريقٌ فرعي، يقع بجواره منزل الأستاذ يوسف. ناظر المدرسة الأنيق والجاد دوماً. نلهو ويعلو صراخنا، ليعلو صراخه من النافذة. هو يريد النوم بعد الظهر ونحن ننشد الفرح واللعب. لم يكل يوماً من الصراخ علينا، ولم نملّ يوماً من اللعب واللهو.

ثلاث ألعاب أعتقد أننا كررناها يومياً لسنوات: "الغميضة" و"الخريطة" و"الراكيت". لم نملّ يوماً لأنه لا خيارات بديلة. ما زالت آثار الندب على ركبتي واضحة حتّى اليوم. أذكر وجه أمي جيداً عندما أعود والدماء تسيل من إحدى ركبتي أو بعد تمزّق ثيابي بفعل قوّة السقوط على الأرض. لم يكن مفعول التوبيخ ليدوم أكثر من ساعة أو اثنتين.

يعلو صراخ الأطفال في الموقف مجدداً. تطل والدة اثنين منهما برأسها من نافذة مطبخها لتصرخ: "اصعدوا جميعكم إلى المنزل، ألا تشعرون بالبرد؟ هل تريدون أن تمرضوا؟ قلت لكم نصف ساعة.. هيا. خلال دقيقتين سأجدكم على باب المنزل".

حاولت تلطيف الأجواء، مقحمة نفسي في الحوار: "اتركيهم يلعبون، المكان آمن وصراخهم لا يزعج أحداً، على العكس..". ابتسمت من الطابق الأعلى وأجابتني: "حبيبتي هما لا يتركان الآيباد، لكنهما خرجا مع أولاد الجيران ريثما أنهي تنظيف المنزل"، قبل أن تقفل النافذة ويختفي الأطفال.
المساهمون