أوسم من الموت وأطول قليلا

25 فبراير 2016
أنا والموت والمنتصر الحقّ سيظفر بعينين بنيتين حقيقيتين (Getty)
+ الخط -

لا شكَّ ستأتي، أعرفُ أنكَ ستأتي، وستكون لكَ أربعُ عيونٍ زجاجية وأيادٍ كثيرة!

وأعرفُ أنكَ سَتهبُّ عليَّ من جهةِ الشمال - ضدَّ الجنوب - جهتي، لا لشيء، إنَّما لأعلمَ أنَّ الجهات صارت لتتصارع، فمَن سيغلبُ مَن، وأنتَ لستَ الأقوى، الريح معك والغبار والطين القديم للأنهار الجافة ومعكَ الطمي كلّما أردتَ لي قبراً صغيراً قربَ تلكَ القصص البعيدة والموشاةِ بأضواء الفوانيس ولمعانِ أعينِ الجدات أمام الضوء الخافتِ مثل ضحكاتهنَ حين لم ينجبنَ لنا إلّا آباءَ بائسين وحزانى، يموتون في أول الروايةِ كأبطال ثانويين يسندونَ روحَ الروي بعد موتهم.



أنا أقصرُ منكَ قليلاً يا موت، لكننا حين نمشي معاً في النزهات السوداء، نبدو كأخوين توأمين، لنا ظلان متشابهان ويدان طويلتان ووجه وعينان خرزيتان كبحيرة سوداء دائرية، لنا الحديثُ نفسهُ، الأغنية، لازمة الأغنية، نبدو متآخين، متصالحين، ولا شمس في هذا السيران القصير.

كلُّ ضوءٍ فضيحة، ذلكَ أنَّ ظلّينا يتشاجران على الدوام، ولأخفي عجزي عن منازلتكَ، أعدُّ لكَ على أصابعي عددَ قتلاي، بينَما أبني كثباناً رملية وأنا أعدُّ قتلاكَ، لو تكفَّ قليلاً، تزجرَ ظلكَ المتعالي بمديحه فنرتاحُ كلانا أو نسقط من شرفة الأحلامِ إلى منزل الأوهام، تنجو كعادتك وأرتّب أنا أجزائي بما يليقُ بحياةٍ جديدةٍ ومن جديد.

أنا أوسم منك يا موت قليلاً، وأهزأُ بكَ كلّما مشيتَ خلفي ووشيتَ بي لوحوشك أو رأيتُ لمعةَ سكينك الحنون!، لكننا حين نعزّي معاً صديقتنا الغابة، غابة الأطفال اللاشوكية، نبدو كطفلين يحفران تحت الشجرة ليصلا ضحكتها ويتركا ذكرى فوق جناح الفراشةِ الغَضّ ويعضّا الندمَ على شيءٍ لم يفعلاه حتى تسيل روحُه مثل خَبر الفَقدِ أو مثل حبرٍ، ويحدث أن تنقلب الغابة كلُّها إلى نهارٍ مكشوفة عنهُ الحُجب، بحيث تقرأ من أشعة شمسه على العشب والتدويرة الزراعية غدنا غداً أو ربما بعد غدٍ أيضاً.

لو أنكَ تأتي بلا عيونكَ الأربع الزجاجيات فأرى انحدارَ الماء فوقَ قلبكَ الأبيض الخفي، وأرى في نهر روحِكَ بعض الأنهارِ والسواقي والآبارِ المعطلةِ هناك، وأقرأُ كما يجب، كما يجوزُ للبدوي الجنوبي ميلهُ إلى الله الواضحِ في زرقة الليل ودهشة الفاجعةِ أول الصبح حين يحضرُ الأبيضُ وتحضرُ الدفّانة والندّابات!

على الأبيض الذي هي فيه الآن، الأبيض الذي من الممكن أن يكون كفنا لا ملاءة من الخام الخفيف في المشفى، تركتْ لي صديقتي رسالة: "أنا أحبُّك.. لا تكرهني"، وأخذت بيديها قارورة السُمّ كان يختبئ في جوفها المظلم توأمي الموتُ، أما قلت لك يا لزومي: ابتعد عنها، خذني أولاً في تلك النزهة لترى موجة الوردة تحت عين الشمس وتظفر ببعض جناح الفراشة مثلي، ثمةَ كابيٌّ أراهُ يتسللُ من قميصِ الوقتِ إلى جحرِ الحقيقة، لو شئت تأخّر، قل: هو رجاء العاجز وذات الغريب والوخزُ الخفيف أسفلَ القصةِ والقلب والنهايات، نهايةُ العالم الصغير، نهايةُ الاكتراث بالذي يحدث في ما بعد.

تأخّر لو شئتَ أو اترك لي بعض قوتكَ، صلابتكَ، قبحكَ، جمالكَ، فطنتكَ، انذهالكَ، تهويمكَ، خستكَ، نبلكَ، مائكَ، طينكَ، جفافكَ، نداوتك، اسماً من أسمائكَ، أسنانكَ، ظلكَ الذي يشبهُ ظلي وأشبهه، حمقكَ، اتزانكَ، اترك لي فرصة أخيرةً لأنجوَ بها منكَ، تلكَ التي تتناسلُ من عينيها الحياة، أعرفُ أنكَ ستأتي وستكونُ لكَ رغبتك في النحرِ والوأد، فاحزم أمرك، امسك السكين من مقبضها الفضي واحرص أنْ تجزّ العنقَ من الخلف، هكذا تذبحُ الأكباش وأنا شبيهكَ، توأمكَ ولست خروفاً مأكلهُ العشب وآخر مراميهِ المراعي الخضراءِ في جزيرة السهول، حيثُ ينامُ الجنوب اليومَ كما لو أنّهُ الميتُ الحي!.

حدّثت حمامةٌ أنثى حمامةً ذكراً عن حلمها: ستنجو حمامتان ذكر وأنثى جنوبيان، مكلومان، سيأخذان العاطفة ويجدّفان باتجاه الحياة، سيتعلقان بالهواء والسماء وبما يشبه النبوءة وإذا وصلا شطاً مؤمناً سيفكّان صُرة الحلم أمامها وينظران في وجه "بَديس"، طفلهما المنتظر، رباط المحبة ورهج الأمنية، وذا يعني أنكّ ستتأخرُ قصيراً ولا رمحَ لكَ تفتكُ به، وأنا - أنا، عرّابُ الأمنيات وصانعُ البهجةِ كلما أولمتُ ناراً وصببتُ فوقها زيتَ الدم والدمعِ والحكمةِ والأنا، وأنا أطولُ منكَ، أتلوىَّ بينَ الشعابِ وأنثرُ أغنيتي فوق، ثمةَ سماءٌ ترأف بي وبالأغاني وبالأنثى الموشكة على الغرقِ في البياضِ المستحيلِ.

وأنا أعلى من الموت قليلاً وأكثر هشاشة، لهُ ظله ولي ظلي وجسارتي في الذهابِ إلى الغابات وحدي، سترينَ كم أنّ المسرحَ يغصُّ بالحضور، وستشاهدين افتراقَ الحيِّ عن الميتِ، هنُا المنصةُ وممثلانِ، أنا والموتُ والمنتصرُ الحقُّ سيظفرُ بعينين بنيتينِ حقيقيتين ويدين قادرتينِ على الكتابة.

انتهى العراك، سالَ حبر كثير، وسالَ ضباب وغبَش باتجاه السماء، ثمةَ منتصرٌ وحيدٌ هو" اللا أحد" لا أحَد!.

(سورية)

دلالات
المساهمون