في مجموعته الشعرية الوحيدة "سريال" (1948)، انتقل الشاعر السوري، أورخان ميسّر (1914-1965)، بما ضمّنه فيها من مقدّمة نظرية ونصوص شعرية، من صورة جديدة للإنسان العربي إلى صورة جديدة للشعر العربي، أي من انقلاب في فهم الإنسان، إلى انقلاب في فهم الكتابة.
ورغم أنه من أوائل الشعراء العرب الذين كتبوا قصيدة سوريالية، فإن قلّة فقط تذكروه كأحد آبائها أو طلائعيّيها. فهو "من أكثر التجارب الشعرية طليعية" بتعبير الناقد والباحث محمد جمال باروت، ويعتبر تجربته من أولى التجارب العربية التي تتمكن من "قول الشعر بمعزل عن أدواته التقليدية".
من المؤكّد أن ميسّر كان مطّلعاً على تجارب السورياليين؛ أمثال: أندريه بروتون وبيكاسو، واقترن ذلك بقراءته العميقة لأعمال فرويد. ولعله أفاد من كلّ ذلك في كتابته الشعر. نجده يعرّف السوريالية بأنها "ما يرسمه العقل الباطن من صور"، ويُفسّر العقلَ الباطن بأنه خزّان كبير يتكوّن من الغرائز المشتركة التي يقذفها إلى دائرة اللاشعور، فيسجلّها الشاعر كما هي.
أمّا عن الشعر والإنسان فكتب: "إن الكلام المنظوم المقفّى في جميع اللغات والمسمّى شعراً ليس في الواقع العملي إلا كلاماً جميلاً. إلا أنّ هناك نواحي أخرى نلمحها من خلال كل ما في كياننا من وسائط اتصال بالحياة، نرى فيها هذه الأخيلة وقد تعرّت من وقارها، ونرى مُثُلنا العليا، ورغباتنا الجليلة، وآمالنا الحلوة، وطموحنا... ونرى نضالنا وكرامتنا الفردية والاجتماعية... نرى ذلك وقد أصبح جوهراً واحداً يشعرنا شعوراً واضحاً ودقيقاً مع كل كائن ينمو ويتوالد أو يتحطّم ويتحوّل على هذه الكرة الكبيرة. إننا لا نستطيع أن نطمس في أعماق خلايانا خطوط السراب المبعثرة في زواياها التي أصبحت جوهراً واحداً. وهذه الخطوط الغامضة المبهمة هي التي تكوّن مادة الإنتاج الفني الصحيح في الشعر والرسم والموسيقى".
يصف باروت كتاب "سريال" بأنه "ذو أفق نظري (السوريالية)، وذو أفق إبداعي (قصيدة النثر). وبالتأكيد، فإن هذين الأفقين كانا مترابطين عضوياً. فالتحرّر من الشكل الخارجي لا بدّ أن يرافقه تحررّ آخر من الشكل الداخلي، والتحرّر من الشكل الخارجي كان يعني لأورخان قصيدة النثر.
وضع ميسّر كتاباً مع الشاعر علي الناصر (1896 - 1970)؛ عملٌ حداثي منسي هو الآخر، وكتب له مقدّمة نظريةً وخاتمة يمكن أن نعدّها نقدية. وربمّا يُعبّر هذا الكتاب عن أكثر التجارب الشعرية المبكرة تطرّفاً في الشعر العربي الحديث.
نصوصه المغايرة لمجايليه، تلفت النظر إلى ثقافته وتنوّع مشارب معرفة الشاعر الذي وُلد في إسطنبول ثم انتقل إلى حلب، قبل أن يلتحق بالجامعة الأميركية في بيروت لدراسة الفيزياء. ساعدته ظروفه الاقتصادية المريحة في التفرّغ للقراءة والكتابة، فقد اقتصر عمله على إدارة أملاكه التي ورثها عن أبيه، إلى أن انتقل إلى دمشق؛ حيث عُيّن مديراً للعلاقات العامة في وزارة الإعلام.
يقول أدونيس عن نتاج ميسّر: "أصف نتاجه بأنه مشروع تحرّر، وبأنه في المقام الأوّل مشروع تحرير حياتي، وليست تجلياته الفنية إلا جزءاً يُكمل تجلياته الثقافية، بل إنّ من خبِر الحياة التي عاشها الشاعر وتفحّصها عن كثب، قد يميل إلى القول إن أورخان كان شاعر حياة أكثر منه شاعر أدب".
صارعَ المرض حتى آخر أيامه، ويذكر أصدقاؤه أنه كان في دمشق حين عُقد مؤتمر طبي عالمي حول السرطان، فأخذه أصدقاءه إليه، وشخّصه عشرة أطباء، قبل أن يقول أحدهم: "لقد فات الأوان". عند ذلك ابتسم أورخان، ووقف بصعوبة مصافحاً الجميع في أواخر نيسان/ أبريل 1965. وبعد يومين فارق الحياة ودُفن في دمشق.
ترك الشاعر تلك النصوص التي نُشرت في "سريال" وقصائد أخرى لم تنشر، وله بضعة كتب في حقول مختلفة؛ هي: "مع قوافل الفكر"، و"شوقي وعصرُه"، و"التنمية القومية" و"الرقص في أمريكا".