أهل النفاق والمجد

27 اغسطس 2015
هذا هو ديدن الدولة العسكرية (فرانس برس)
+ الخط -
محطة مصر، الإسكندرية، منتصف الليل، كان يجلس على المقهى البسيط، كواحد، ينتظر اكتمال حمولة الميكروباص، فاتنا حجز القطار، فاضطررنا، أنا وأصدقائي، إلى العودة بالطريقة نفسها، عرفته، فذهبت لأسلم، مندهشا: الشاعر الكبير (....) أهلا، يرد: أنا مشهور إذن، تجمعنا الدهشة وانتظار الميكروباص.


يسألني، مباشرة، قل لي بصدق: هل تعتبرني شاعرا كبيرا؟ هل أنجزت شيئا حقيقيا في الشعرية العربية؟ أتحدث معه عن تجربة جيله، وموقعه منها، من دون جدوى، يبدو حزينا ومحبطا، وهو يقترب من السبعين، من دون "أضواء" وصخب!!

في الطريق، ينطلق السائق وسط ظلام "الصحراوي"، فوق المطبات، بين الحفر، بسرعة جنونية، لا يعبأ بصراخ الناس، تهتز أجسادنا، ونحن سكان المقعد الأخير، نتحدث عن مصر، الثقافة والحضور، يقول: كتبي في بيروت، في مكتبات العالم، تأتيني الدعوات بدون سعي من مهرجانات شعرية كبيرة، يتصل بي أدونيس يسلم، يعزي، أقابله، فأجده قارئا لشعري، متابعا، يكتب عني ناقدا عالميا، لم يكتب عن شعراء مصريين، سوى صلاح عبدالصبور، وصلاح جاهين، وأنا، ومع ذلك لا يكتب عني حرف واحد في بلدي، لا تطبع لي الدولة دواوين بأسعار رخيصة لتصل إلى شباب القراء، لا تخاطبني جوائز الدولة، ولو بالإشارة، لا كرامة لنبي بين أهله!!

أقول: إن هذا هو ديدن الدولة العسكرية، مذ عرفناها، أن تكون معي، أو لا تكون، على الإطلاق، يسأل: وأين الصبر والموهبة، والدأب؟ أين العمر الذي راح في لا شيء؟ أين سهر الليالي؟ أقرأ فلاسفة الكون شرقا وغربا، أتعاطى الأساطير، أحاورها، أسكنها أبياتي، وتسكنني، أين مرارة الغربة، داخل هذا الوطن، والتضحيات، وبيتي، وأولادي، وزوجتي التي ماتت، قبل أن أخبرها بكل ما لدي، لأنني منشغل بالقصيدة عنها، وهي التي انشغلت بي عن الدنيا، أين أنا بعد كل هذا؟

أسئلة متبادلة: هل وصل التردي في مصر إلى درجة أن يكون النبوي هذا هو وزير ثقافتها؟ لماذا تقوم الدنيا ولا تقعد من أجل "لا شيء" مثل أحمد مجاهد؟ ما الذي يحتاجه شاعر كبير مثل أحمد عبدالمعطي حجازي، أو روائي مثل الغيطاني، كي يتزلفا لكل الأنظمة، وهم أبناء الموهبة، وعمار مساجدها؟ ما الذي كان يحتاجه الأبنودي العظيم بعد كل ما حقق، لكي يبدو صغيرا إلى هذا الحد في نظر كل من آمن بنشيده الجنوبي؟ أي درك نحن فيه، ومنه، وبه.

أي كرامة لناقد يحتاج إلى أن تتدلل عليه فتاة عديمة الموهبة ليدبج عنها المقالات الطوال، فيما يمنع عن رفاق جيله من الموهوبين، وهو يعلم، أن ينشروا قصيدة واحدة طوال 40 عاما للخلاف السياسي، أو النفي؟!!

يقول: لن أذهب لأحد، لن يستعبدني أحد، فلتمت القصيدة في صدر التجاهل، ولا أحيا وقد حصلت من المداهنة، والمراوغة، والرقص على الحبال ما لم أحصل من المعنى، فليهنأوا بجوائزهم، وتقلبهم على حرير السلطة، سأموت حسرة وغماً أشرف لي، أمام مرآتي، وأولادي، وقارئ عابر ربما يتعثر في ضوء كلماتي، فيشهد لي يوما بما لم يشهد به هذا العالم الكافر.

نسكت، يبتلعنا ضوء وحيد على الطريق، كشافات سجن طره، نتجاوز، فنعود للظلام، أنا هذا الرجل، أو بعض منه، فكيف سيكون المصير، وأنا هذا الفاشل في التربيطات الاجتماعية، غير القابل للبيع في مزادات الطغاة؟ هل أجلس يوما هنا، أبحث عن ذاتي في مرآة قارئ الصدفة؟
يسألني عن الشعر، يرد عني صديقي، لا أحفظ قصائدي مثلما يحفظها، يعلق الشاعر الكبير: يبدو أنك من نفس النوعية "الوسخة"، لن تفلح أبدا، نضحك، يقول: كنت أعرف أمل دنقل، عاش ومات شاعرا عظيما، لكنه لم ينل في حياته عُشر ما يستحق، حتى جاء جيلكم، فعرفه، إن لم ينصفك اليوم، فلا تلق بنفسك عظمة للكلاب، أكتبها كما تراها، وسيكتشفك الغد، ما دمت تستحق، وصلنا.

(مصر)
المساهمون