22 نوفمبر 2024
أن تألف البيت الذي تسكنه
لم أكن يوما أعتقد أنني قد أتعلق ببيت ما. "فكرة البيوت" كانت تشبه كل أفكار حياتي، عابرة ومتغيرة، وحتما ليست أبدية. لم أملك بيتا في حياتي. لم أعش في بيتٍ يخصّني، سكنتُ في بيوت عديدة، كنت أرتّبها كما أحب، ثم أتركها بعد مدة قصيرة، الفترة التي عشتها في بيتٍ عائلتي كانت أيضا في بيوتٍ مستأجرة، عابرة، لم تستطع أن تراكم داخلي ذاكرةً طويلةً ومتواصلةً. ذاكرتي عن البيوت التي عشت فيها متقطعة، ومتنوّعة، وربما مشوّشة إلى حد ما، إذ لم يكن ثمّة بيت قديم للعائلة نسترجع من جدرانه، بعدما كبرنا، شغب طفولتنا، صخبنا، عراكنا الطفولي، أحلام مراهقتنا. لا بيت قديما للعائلة كي ندل أولادنا على أماكن الضحك والحزن والألفة والحنين. هذه الأماكن الحميمة بكل ما فيها، بالدفء الخاص الذي يمنحه تذكّرها واسترجاعها. لم أعرف هذا الدفء يوما، ولم أستطع أن أدلّ ابنتي عليه. لابنتي ذاكرة أخرى ربما، عاشت طفولتها في بيت جدّيها، على الرغم من أنها مثلي لم تسلم من الذاكرة المتقطعة عن البيوت والأماكن. البنات عادة ما يُعدن سير أمهاتهن، هكذا علمتني الحياة إلى حدٍّ ما.
مفردة "السكن" مشتقة من السكينة. البيت يعني السكينة والأمان والألفة، وبدون قصد يترك علاماته على الشخصية. تلك البنت التي عاشت في بيت واحد أو بيتين ستكون أكثر طمأنينة من التي تنقلت بين بيوت عدة. أعرف هذا من نفسي، ومن صديقاتي. علقة كثيرين من صديقاتي مع بيوت حيواتهن وذواكرهن عنها أكثر توهجا وحضورا من ذاكرتي عن بيوت حياتي. يخبرنني أن علاقتي مع البيوت غريبة، قاسية، باردة أحيانا، أعرف هذا جيدا. ربما هي تشبه علاقتي مع رجال حياتي، شغف بالبداية ثم قسوة وانفصال، بلا تعلّق، بلا مكابدات، كله عابر وسريع، مهما سعيت إلى إحاطته بالطمأنينة، أو مهما سعيت إلى أن أمنح نفسي الشعور بالأمان. الحياة أصلا عابرة، هل علينا أن أن لا نراها كذلك كي نبقى مطمئنين؟ لم أعرف هذه الطمأنينة يوما، وربما لن أعرفها أبدا.
أعيش منذ سبع سنوات في القاهرة، في بيت مستأجر في قلب ميدان التحرير. من المدهش أن تكون هذه أطول فترة في حياتي أعيش فيها في بيت واحد من دون انقطاع، أن يحدث هذا خارج بلدي في بلاد الآخرين! تقول لي صديقتي المصرية، ونحن نتحدّث عن البيوت: بيتك هذا أصبح وطنك. أنت تفعلين فيه كل ما أردت فعله في حياتك على الأغلب. صديقتي تعرف جيدا كيف أصبحت متعلقةً بهذا البيت، وتعرف ضوابطي النفسية والمادية في علاقتي به! سألتها أمس: ما الذي حدث حتى أشعر بأن نتفا من روحي موزّعة في غرف البيت الذي أسكنه؟ تغيرت فكرة البيت لي! ما الذي غيّرها؟ أصبح بيتي حضن كل من فقدتهم: الوطن، الأب، الأم البعيدة، الابنة البعيدة، الأخت البعيدة، الأصدقاء البعيدون، العشاق الذين أتذكّرهم يبتعدون وسط ضبابةٍ تخفي ملامحهم؛ ما الذي حدث، كي أتعلق ببيتٍ سأغادره يوما ما، كما غادرت كل ما سبقه؟ أشعر بغصّة حزنٍ تمسك بصدري، لمجرد التفكير في الانفصال عنه، كما لو كان بيت حياتي كلها. أنا تغيرت ربما، غيّرني القهر والفقد والمرض، غيّرتني الوحدة، غيّرتني الوحشة الطويلة، وغيّرني الحزن الذي يمد فراشه كل يوم بجانبي، ويمنع عني النوم. أليس غريبا أنني أنا التي لا أستطيع النوم بجانب أحد أحضن جسد الحزن والخوف كل ليلة وأنام؟
غيّرتني الحياة والتقدّم بالسن، حتى علاقتي بالرجل تغيّرت، لم يعد الرجل الذي أحبه اليوم عابرا لي، كما البيت تماما، صار الانفصال عنه صعبا ومتلفا للقلب والروح. مع أنني، مع كل يوم جديد يمر في حياتي، أزداد اقتناعا بأن الحياة ليست سوى لحظات عابرة، لن يتبقى منها شيء بعد حين، وأن كل ما نفعله لنثبت أقدامنا فيها لا شيء.
في غرفة نومي الأثيرة، أستيقظ باكرا، فأرى مكتبتي على يميني. وعلى شمالي البيرو التي أضع عليها علب مكياجي وزجاجة عطري. تناديني الشرفة بضجيجها، وتقودني رائحة قهوةٍ سوف أغليها الآن إلى المطبخ. أغلي قهوتي، وفي طريقي إلى الشرفة، أقول صباح الخير للوحات أصدقائي على الجدران، للأثاث المريح الذي جعل مني امرأةً بيتوتية، لقطتي البيضاء التي تتبع خطواتي بانتظاري كي أدلّلها، لموسيقى باخ المتروكة منذ الليلة الماضية تعيد نفسها على ساوند كلاود.. صباح الخير لكل شيء أحبه في هذا البيت الذي ليس لي، في الوطن الذي ليس لي.
أعيش منذ سبع سنوات في القاهرة، في بيت مستأجر في قلب ميدان التحرير. من المدهش أن تكون هذه أطول فترة في حياتي أعيش فيها في بيت واحد من دون انقطاع، أن يحدث هذا خارج بلدي في بلاد الآخرين! تقول لي صديقتي المصرية، ونحن نتحدّث عن البيوت: بيتك هذا أصبح وطنك. أنت تفعلين فيه كل ما أردت فعله في حياتك على الأغلب. صديقتي تعرف جيدا كيف أصبحت متعلقةً بهذا البيت، وتعرف ضوابطي النفسية والمادية في علاقتي به! سألتها أمس: ما الذي حدث حتى أشعر بأن نتفا من روحي موزّعة في غرف البيت الذي أسكنه؟ تغيرت فكرة البيت لي! ما الذي غيّرها؟ أصبح بيتي حضن كل من فقدتهم: الوطن، الأب، الأم البعيدة، الابنة البعيدة، الأخت البعيدة، الأصدقاء البعيدون، العشاق الذين أتذكّرهم يبتعدون وسط ضبابةٍ تخفي ملامحهم؛ ما الذي حدث، كي أتعلق ببيتٍ سأغادره يوما ما، كما غادرت كل ما سبقه؟ أشعر بغصّة حزنٍ تمسك بصدري، لمجرد التفكير في الانفصال عنه، كما لو كان بيت حياتي كلها. أنا تغيرت ربما، غيّرني القهر والفقد والمرض، غيّرتني الوحدة، غيّرتني الوحشة الطويلة، وغيّرني الحزن الذي يمد فراشه كل يوم بجانبي، ويمنع عني النوم. أليس غريبا أنني أنا التي لا أستطيع النوم بجانب أحد أحضن جسد الحزن والخوف كل ليلة وأنام؟
غيّرتني الحياة والتقدّم بالسن، حتى علاقتي بالرجل تغيّرت، لم يعد الرجل الذي أحبه اليوم عابرا لي، كما البيت تماما، صار الانفصال عنه صعبا ومتلفا للقلب والروح. مع أنني، مع كل يوم جديد يمر في حياتي، أزداد اقتناعا بأن الحياة ليست سوى لحظات عابرة، لن يتبقى منها شيء بعد حين، وأن كل ما نفعله لنثبت أقدامنا فيها لا شيء.
في غرفة نومي الأثيرة، أستيقظ باكرا، فأرى مكتبتي على يميني. وعلى شمالي البيرو التي أضع عليها علب مكياجي وزجاجة عطري. تناديني الشرفة بضجيجها، وتقودني رائحة قهوةٍ سوف أغليها الآن إلى المطبخ. أغلي قهوتي، وفي طريقي إلى الشرفة، أقول صباح الخير للوحات أصدقائي على الجدران، للأثاث المريح الذي جعل مني امرأةً بيتوتية، لقطتي البيضاء التي تتبع خطواتي بانتظاري كي أدلّلها، لموسيقى باخ المتروكة منذ الليلة الماضية تعيد نفسها على ساوند كلاود.. صباح الخير لكل شيء أحبه في هذا البيت الذي ليس لي، في الوطن الذي ليس لي.