تأتي لحظة، تنتهي فيها حياة فردٍ. هكذا، تغادر البلجيكية أنييس فاردا الحياة والعالم والسينما، قبل شهرين ويومين على عيد ميلادها الـ91. عمرٌ طويل. حياة مديدة. عالم متبدّل مرارًا. سينما تغوص في مستنقعات الدنيا كي تصنع أبهى صُور ممكنة عن بؤس وحكايات وتأمّلات وانفعالات ومسارات. التصوير الفوتوغرافي شاغلٌ لها في ابتكار نمطٍ من تثبيت اللحظة وإنقاذها من فناء ربما تعانيه إنْ تبقَ خارج الـ"كادر"، والـ"كادر" سينمائيّ أيضًا.
"إلى الحدّ الأقصى، حياتها تُصبح سينما، والعكس صحيح أيضًا" (كلاريس فابر، الموقع الإلكتروني للصحيفة اليومية الفرنسية "لو موند"، 29 مارس/ آذار 2019). هذا اختزال عميق لسيرة تؤرّخ زمنًا وانفعالات ووقائع، وتلتقط اختلافات الجغرافيا والعيش، وتغوص في تناقضات التاريخ والمصائر. تُرى، أهكذا تختزل، هي نفسها، حكايتها كلّها في "فاردا بحسب أنييس"، آخر وثائقيّ لها (2019)؟ أم أن لحكايتها كلّها ألف صورة وألف عين وألف فيلم؟ ألن تكون "السينما الشابّة مدينةً لها بكل شيء" (جان دوشي، ناقد ومخرج سينمائي، 1960)؟ سيدة اختراع جماليات الصُوَر، تُشارك في تفعيل "الموجة الجديدة" في السينما الفرنسية، المؤدّية إلى انقلاب جذري في صناعة الأفلام.
تقول: "عام 1954، كنتُ مُصوّرة فوتوغرافية، وأعرف القليل عن السينما. يبدو لي إذًا أن كثيرًا من "الثورات الأدبية" لم تُقابلها ما يُشبهها في الشاشة". هكذا، تستوحي أنييس فاردا (المتوفاة في 29 مارس/ آذار 2019)، من أجل أبحاثها وأسئلتها وهواجسها، من الكاتبين الأميركي ويليام فوكنر (1897 ـ 1962) والألماني برتولد بريخت (1898 ـ 1956)، ما يُعينها على كَسْر، أو محاولة كَسْر بناء النصّ، والعثور على لهجة موضوعية وذاتية/ حميمة في الوقت نفسه. تؤكّد مرارًا رغبتها في أن تمنح المُشاهد حرية كبيرة إزاء ما يُشاهد، كي يحكم ويُشارك، كأن المُشاركة فعل ابتكار يُدخِل المُشاهد في لعبة الصُور التي تُجيد صنعها، فيُصبح حُكمه امتدادًا لتفاعلٍ مشترك، بينه وبين المخرجة وصُوَرها. أما التداخل الآخر الذي ينتبه إليه كثيرون منذ بداياتها، فكامنٌ في ثنائية "موضوعي ـ ذاتي/ حميم"، ما يجعل كلّ مُشاهدة لكلِّ فيلمٍ من أفلامها انعكاسًا لمدى مفتوح على الاحتمالات كلّها، في المُشاهدة والقراءة والتفكيك والمُشاركة.
تغادر أنييس فاردا. المغادرة جزءٌ من لعبة السينما في مناكفة الحياة أيضًا، كما الرحيل غالبًا.