أنفُ فيروز
كان لبنانُ، في ستينيات وبدايات سبعينيات القرن الفائت، شيئاً كحبّة الماس المتّقدة النادرة، تشوبه شوائبُ قليلةٌ لا تُرى بالنسبة إلى محبّيه بالعين المجرّدة، وبيروتُ جوهرةً تشعّ حرية وانفتاحاً وازدهاراً وثقافة، وفيروز ثروةً وطنية، مثلما هي جبال لبنان وشواطئه.
وحين علمنا أن "سفيرتنا إلى النجوم" مقبلةٌ على إجراء عملية تجميلية لأنفها - ولم تكن عمليات التجميل حينها دارجةً أو في متناول الجميع - ضجّت البلادُ بالخبر، فأنف فيروز ليس مجرّد أنف وحسب، ووجهها في وجداننا مثل أيقونة السيدة العذراء. هكذا انشغل الوطن بالأمر، وانقسم جمهورها الكبير بين محبّذ ومعارض، وبين خائف على صوتها ومناصرٍ لتحسين شكلها، هي التي يقارب صوتُها الكمال.
قرّرت فيروز إجراء العملية. عاندت وأصرّت، على الرغم من ممانعة زوجها عاصي، وعلى الرغم من حذرنا، كأنما كانت تؤكد بذلك انتماءها إلى ثقافتنا والعصر، ووجودَها لأول مرة مغنية لها حضورها المستقلّ ضمن الثلاثيّ الرحباني المعروف، ووجودَها أيضا أنثى تريد لنفسها أن تبدو جميلةً ومميزة، وليس مجرّد صوت ملائكي لا وجود حسّياً له.
خلعت فيروز مظهرها امرأةً عادية تشبه الأمهات والجارات، لتصبح "نجمة" لبنان قلباً وقالباً. اختلفت تسريحات شعرها، ملابسها، أسلوبها، صارت تبتسم وتتحرّك، فما عاد بإمكان خصومها، من مناصري "عدوتها" المطربة صباح، أن يقولوا "اسمعوها ولا تروها"، إذ صارت تُسمع بقدر ما تُرى، ويطيب مرآها.
كان قد قيل لنا إنها ذهبت إلى أميركا لإجراء العملية، فقد كان خوفنا عليها كبيراً، وعلى حنجرتها وأوتار صوتها. قيل ذلك لطمأنتنا، نحن شعب لبنان، إذ كنا نخشى أن يتشوّه صوتها مقابل تحسين أنفها، وأيضاً لأننا أحسسنا بذنٍب كبير كيف أننا لم نحببها كفاية، أو كيف أننا لم نُعلمْها كم نحبّها كيفما كانت. ثم قيل إنها أجرت العملية في مستشفى أوتيل ديو في بيروت، على يد البروفيسور داود، وإن عاصي لم يفارق سريرها يومين. لكن الأمر لم يعد مهمّاً في نظرنا آنذاك، وقد أطلّت علينا فيروز بأنفها الجديد، ذاك الذي قيل إنها أرادته كأنف صوفيا لورين. صوفيا لورين دفعة واحدة! قلنا ضاحكين فرحين، وتهافتنا على صورة وجهها الجديد، نلثمه ونتسابق في وصف محاسنه ومزاياه.
ثم اشتعلت الحرب، وما عاد للبنان وجهٌ كي تكون فيروز وأمثالُها وجها له. وهاجرنا أفراداً، وأرتالاً، وجماعات. وكرهنا ذواتنا، وكرهنا بلدنا، وكرهنا أكثر ما كرهنا فيروز التي صارت تذكّرنا بما بات واضحا لنا، كم هو وهمٌ، وكم هو مستحيل، بل إننا صرنا نُكثر من تلك العداوة ونغالي بها، حتى بات يصعب علينا سماعها، حين يحدث أن تضع الإذاعاتُ المتكاثرة كالفطر السامّ، أغانيها. "ماتت" فيروز في نظرنا، "أمتناها" وتخلّصنا من سحرها وهواها، وألقيناها في سلة الذكريات...
إلى باريس، حملتُ أشرطة كل من كنتُ أهوى سماعهم، ثم كرهتُ حنيني، وما تثيره تلك الأغنيات فيّ من شجن، فوضعتها في صندوق وضعته في القبو ولم أعد إليها، إلى أن أنقذني من شبحها ظهورُ السي دي.
ثم جاء يوم انهمك فيه كل أصدقائي بالحفلة التي ستقيمها فيروز في صالة بلاييل في باريس. فيروز؟ ياه! أعلمتُ الجميع أني لن أحضر الحفلة، وأني لم أعد أطيق سماع فيروز، فلينظموا حجوزاتهم كيفما يريدون.
لكنّ صديقتي ضحى اتصلت، وكانت الملحقة الصحافية الخاصة بفيروز، وقالت أحتفظ لك ببطاقة، وإن لم تريدي البقاء، ارحلي فأنت لم تخسري شيئاً. وخجلت منها. ووافقت.
حين أطلّت فيروز، اشتعلت الصالة وقوفاً وتصفيقاً وهتافاً، أكثر من عشر دقائق. تصفيق ألهب كفيّ، ودموعٌ حارّة انفجرت، وما عادت تتوقف. منذ اللحظة الأولى. كالسحر. أنا القادمة غصباً عني، أنا الكارهة المكابرة. وهي واقفة من دون حراك، قدماها مزروعتان في خشبة المسرح، وعيناها في الأرض. نحن نبكي، والفرنسيون الحاضرون ينظرون إلينا ولا يفهمون.
كيف يفهمون، ونحن أنفسنا لا نفهم. وأنا لا أفهم عينيّ المسمّرتين في أنفها الذي يطاول السماء.