أنطولوجيا الشعر التركي: ناظم حكمت وإخوته

01 نوفمبر 2014
ناظم حكمت في بورتريه لـ جاك باس
+ الخط -

لعل الشعر هو الحكمة الوحيدة المتبقية في عالمٍ يفقد كل يوم قليلاً من إنسانيته. هذا ما يستنتجه الفنان الفرنسي جاك باس (1930) في مقدّمته للأنطولوجيا التي وضعها تحت عنوان "شعر تركي"، وصدرت حديثاً عن "دار جاك بير".

عملٌ يشكّل حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الأنطولوجيات التي أنجزها الفنان بهدف تكريم شعراء من آفاقٍ جغرافية مختلفة نشطوا، وينشطون، في سبيل قضية عادلة ونبيلة؛ تعزيز الأخوّة بين البشر.

تسمح الأنطولوجيا الجديدة، التي تعاون باس فيها مع مجموعة من المترجمين، وأنجز بنفسه رسماً لكل شاعر موجود فيها، بقراءة وتأمّل أبرز وجوه الشعر التركي، منذ تأسيس الجمهورية عام 1923 حتى اليوم.

ولأن المرحلة التي يغطّيها تمتد 91 عاماً، نجد في هذا العمل قصيدة أو قصيدتين لـ91 شاعراً يمثّلون مسارات وكتابات وبصمات مختلفة داخل المشهد الشعري التركي، ويتجاورون من دون أي ترتيب زمني، ما يضع الروّاد أو الأسماء الكبيرة إلى جانب شعراء مجهولين أو ما يزالون في بداية مسارهم. هكذا، يخرج الشعر التركي من الأطر التقليدية المعتمدة في أنطولوجياته المتوافرة، ويُمنح القارئ إمكانية المقارنة واستخلاص التأثيرات أو الخصوصيات اللغوية لكل شاعر.

ولفهم الشعر التركي الحديث والمعاصر الذي يقدّمه هذا العمل، لا بد من وقفة سريعة عند مصادره التاريخية الثلاثة، ونقصد الشعر الشعبي الذي تعود جذوره إلى القرن الثالث عشر، وشعر "الديوان" أو "الباب العالي" الذي ظهر مع تأسيس السلطنة العثمانية (1299)، إضافةً إلى الشعر الفرنسي. حتى القرن التاسع عشر، لا نعثر على أنواع أدبية تركية أخرى غير الشعر والحكايات.

ومثل الحكايات، يندرج الشعر الشعبي ضمن تقليد شفاهي ما زال حيّاً حتى اليوم، وسمّي شعراؤه بالـ "العاشقين"، لتنقّلهم من قرية إلى أخرى وإنشادهم قصائد حب بمواكبة آلة الساز الموسيقية. وبخلاف لغة شعر "الديوان" التي هي عبارة عن مزيج من التركية والعربية والفارسية، لا تفهمه سوى حفنة من المثقّفين؛ لا تزال لغة الشعر الشعبي القديمة مفهومة حتى اليوم. أما التأثيرات الفرنسية، فحصلت خلال القرن التاسع عشر، مع قدوم عدد من المثقفين الأتراك إلى فرنسا وانطلاق حركة ترجمة لأعمال شعرية وأدبية فرنسية تنتمي إلى المدارس الكلاسيكية والرومنطيقية والبرنسية والرمزية. مرحلةٌ بدأت اللغة العثمانية تتصفّى خلالها لصالح التركية، وبدأ الشعر التركي يتغيّر معها شكلاً ومضموناً.

من هذا الإرث الشعري المتعدّد، تغذّى الشعراء الأتراك في القرن العشرين، كلّ منهم على طريقته الخاصة، علماً أن شعر معظمهم هو حصيلة فريدة للمصادر الثلاثة المذكورة. وبخلاف الشهرة التي يتمتع بها رائد الأدب التركي الحديث، الشاعر الثوري ناظم حكمت، ما زالت أسماء شعرية مهمة، ظهرت في الأربعينيات، مجهولة خارج تركيا، مثل أحمد مهيب دراناس (1909 ـ 1980) وفاضل حسنو داغلركا (1914 ـ 2008) وجاهيت صدقي تارندجي (1910 ـ 1956).

أسماء نشطت بموازة مجموعة "غريب" (1941) التي ضمّت أورهان والي (1914 ـ 1950) وأوقتاي رفعت (1914 ـ 1988) ومليح جودت أنداي (1915 ـ 2002)، وأسّست لشعر مستوحى من الواقع اليومي، ومتحرِّر من الغنائية والمواضيع الملحمية، يسائل العالم بطريقة عبثية ويهزأ من كليشيهات الشعر التقليدي.

وفي الخمسينيات، برزت أسماء جديدة، مثل بهجت نيكاتيغيل (1916 ـ 1979) وجاهيت قوليبي (1917 ـ 1997) وصلاح بيرسِل (1919 ـ 1999) وأتيلا إيلهان (1925 ـ 2005)؛ شعراء أعادوا إدخال تعابير عثمانية في جسد القصيدة، وقاربوا مواضيع اجتماعية، مستعينين باستعارات مجدِّدة داخل شعرٍ يتراوح شكلياً بين الشعر الحر والقوالب الثابتة.

في الستينيات، شهد الشعر التركي حركة جديدة سمّيت "الجديد الثاني" (بالنسبة إلى مجموعة "غريب" التي تُعتبر الحركة المجدّدة الأولى). تحت هذه التسمية، تندرج أسماء شعرية كثيرة نشطت بشكلٍ منفرد، وبالتالي لا ترى نفسها كمجموعة، مثل "أديب كانسفر (1928 ـ 1986) وتورغوت أويار (1927 ـ 1985) وجمال سورييا (1931 ـ 1990) وإيلهان بيرك (1918 ـ 2008) وإيجي أيهان (1931 ـ 2002).

وبخلاف مجموعة "غريب"، سعى هؤلاء الشعراء خلف جمالية منمّقة، وبالتالي خلف "الفن من أجل الفن"، عبر صقلهم لاستعارات جديدة. وتكمن حداثة هذه المرحلة في المسافة، الساخرة أحياناً، التي وضعها روّادها مع النماذج الشعرية القديمة. كما يجب عدم نسيان الشعراء الذين بقوا على هامش هذه الحركة وكتبوا شعراً متطلّباً وحسّاساً لبؤس العالم، مثل أحمد عارف (1927 ـ 1991) وجان يوجِل (1926 ـ 1999) وجِفات جابان (1933) وغولتِن أقين (1933) وأوزدمير إينجي (1936) وأتاوول بهراموولو (1942) وأحمد تللي (1946).

أما الشعر التركي المعاصر، فيحضر أيضاً في هذه الأنطولوجيا عبر أصوات مهمة، مثل إنيس باتور (1952) ولالي مولدور (1956) وكوتشوك إسكندر (1964)؛ وأخرى شابة، أكثر جرأةً على زعزعة الأشكال القديمة، يلتحم شعرها بزمنها ويشكّل شاهداً أو انعكاساً لتحوّلاته. شعرٌ أكثر انفتاحاً على العالم، لكنه يسعى بدوره إلى ما حاول الأتراك إنجازه على مر تاريخهم: مزاوجة إرثهم الشرقي بافتتانهم بأوروبا.

المساهمون