الجديد الذي تقدّمه هذه الأنطولوجيا عن شاعر بحجم الحاج، نال قسطه من الدراسة والبحث، هو أنها تطلعنا عليه من خلال شاعر آخر من طينته الطلائعية، وبالتالي من خلال اختيارات الجنابي المتأنية لنصوص الحاج، وقراءته النقدية الجديدة لإنتاجه الشعري.
قراءة تخلو من الإنشاء الإسقاطي وتندرج ضمن تراث الحاج، وإن جاءت كتحية لشاعر صديق رحل عنا. إنها مقاربة مصطلحية ومعرفية تحدد معالم نوعين شعريين مارسهما الحاج: قصيدة النثر، والشذرات التي كتبها تحت عنوان "خواتم".
المقدمة الأولى في الأنطولوجيا تتركز على شعرية الحاج التي يسمّيها الجنابي "شعرية الكتابة الكلامية"، وقد اختار لإظهارها أربعين قصيدة من مجموعات الشاعر. أما المقدمة الثانية فتفتح بمصطلح "شقائق النثر" أفقاً جديداً في اللغة العربية على مستوى توصيف وتحديد الفقرات، الشذرات، الشظايا؛ باختصار، كل ما يقع في سلك الكلمة الفرنسية fragment. مصطلح يشرح الجنابي من خلاله "خواتم" الحاج وطبيعتها، قبل أن يختار 150 شقيقة نثرية من أجزاء "خواتم" الثلاثة، كسند لتحليله هذا.
في بداية حديثه عن تجربة الحاج الشابة، يقول الجنابي إنها "تتميّز بـ "خضّة تمرّد صحّيّة" لم تنطوِ عليها تجارب شعراء جيله، ولا الشعراء الذين أتوا قبله؛ تجربة لها تأثيرٌ "منبّهٌ يوقظ ما هو كامن أصلاً" في القرّاء. ذلك أن قراءة متحرّرة من أي أفكار مسبقة لكتاب مثل "لن" (العنوان نفسه إشكاليّة تكاد تكون المفتاح والقفل في آن) تفضي بنا إلى الانغماس في أكثر حركات الآخر الشعرية تمرّداً".
ويضيف: "هذا لا يعني أن شعر الحاج تقليد للشعر الغربي، لسبب بسيط هو أن تراكيب قصائده وصوره وليدتا صراع اللغة العربية مع نفسها كتعبير وكموئل صورٍ".
ويعتبر الجنابي أن الحاج هو "من الشعراء القلائل الذين كانت قراءة كلّ شيء غذاءهم الروحي. لكنّه لم يكن قارئاً احتوائياً، أي يقرأ ليسطو على أفكار الآخرين ويميّع رسالتها، وإنما قارئاً روحيّاً يفتح كتب الآخرين، "ليُصبح في النهاية صداه وحده". ولهذا، وُلد اتصالٌ مقدّسٌ بينه وبين الكلمات إلى حد بات معه بعض القراء في ظلال، بحيث راحوا يتصوّرون أن بعض كتاباته تنزع دينياً نحو نافذة الإله. في الحقيقة، ليس هناك شعور ديني بمعناه المذهبي والعام، وإنما هناك تسامٍ واتحادٌ روحيٌّ".
وحول كتابة الحاج الشعرية، يلاحظ الجنابي أنها تقوم "على كسر البنية الكلاسيكية لمسار الجملة العربية وتركيبتها البلاغية، فاتحاً تنسيقاً جديداً للكلمات من حيث نظام تتابُعها النحوي. وكأن اللغة هي التي تحدّد موضوع القصيدة، وليس الموضوع الخارجي هو من يحدّد لغة القصيدة، وبالتالي موضوعها. وتكشف معظم قصائد "لن"، مثلاً، عن تجاور كلمات توليديّ في نحو الجملة وتركيبها، تتخلّص فيه الكلمات من المعنى المُعطى لها قاموسياً، محدثةً انزياحاً جديداً في الحقل الدلالي المطلوب لفهم الجملة".
وفي سياق تمييزه صاحب "الرأس المقطوع" عن شعراء جيله، يقول الجنابي: "في شعره ليس ثمة قصيدة واحدة تعبّر عن أي قضية ينتظر جمهورٌ تعبيراً شعرياً عنها، بل ليس ثمّة قصيدة واحدة فيها صدى لما يجري من أحداث اجتماعية، سياسية، إلخ".
ويضيف: "قارئ النتاج الشعري العربي كلّه في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، سيخرج باستنتاج قاطع هو أن "لن" هي المجموعة الشعرية الوحيدة التي ضمّت ما يسمّى الشعر اللا إسنادي (non-référentielle)، أي اللا مَرجِعيّ، الذي ليس له صِفةٌ لِما يُشيرُ إلى مَوقعٍ أو عَلاقةٍ مَعروفة". ويزيد الجنابي: "لا أرى أيَّ شاعرٍ آخرَ من مجموعة مجلة "شعر"، انتبَه، كأنسي الحاج، ومبكراً، إلى ما يميّز الإيقاع العضوي، إيقاع القصيدة الحديثة، عن النغم الموسيقي الكلاسيكي الذي كان يصول فيه أدونيس مثلاً".
ولأن الجديد لدى الحاج متعدّدٌ، يشير الجنابي إلى أن صاحب "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" هو "الشاعر الحديث الأول الذي أنقذ شِعرَ الحبّ، في العربية، من الرومانسيات والمجونيات معاً، ليضعه في مقامه الحقيقي، الإيروسية المتسامية".
باختصار، يلاحظ الجنابي أن "الرسالة التحرّرية لشعر أنسي الحاج، الخالي من أيِّ تلميح أيديولوجي، تكمن، من جهة، في أنه وضع توجّهاً شعرياً كلاسيكيَّ المنحى كان سائداً، على الرفِّ؛ مرّةً وإلى الأبد؛ ومن الجهة الأخرى، في قدرته على زجّ اللغة الشعرية في معمعان التجريب الطليعي، بنقل القصيدة من نطاق الدمدمة في الأذن إلى صور تسمعها العين؛ من قاموس الكلمات المزوّقة وذات الوقع الرومانسي المستهلك، إلى معجم الكلمات الحيويّة الصادمة".
أما في ما يتعلّق بـ "خواتم" التي انطلق الحاج في كتابتها بعد صمتٍ طويل، فيقول الجنابي إن "الشاعر قلّب مغامرته التي كانت في صلب ريادة قصيدة النثر، فوجد عنصرها الأساسيّ: الإيجاز... رغم صعوبته، ينزل به نزولاً عميقاً حتى أمكنة الكلام الخبيئة".
ويضيف: "يجب أن يُنظر إلى كل فقرة/ مقطع في "خواتم" كـ Fragment التي تُترجم عادةً بـ "شظية" أو "قِطعة". لكنني أرى أن أقرب ترجمة لها هو شقيقة (وفي حالة الجمع: شقائق النثر) بدل "شظيّة" الخالية من أية إشارة فنيّة إلى المفهوم الأدبي الحديث للكلمة، حيث التدامج بين نثر تساوره الأفكار وشعر يقوم على المُجاورة، يولّد شاعريّةً "تستوعب أضدادها وتشتمل على نقائضها"... شاعريّة تقلب الحقائقَ المسلّمة، وتستبدلها بحقائق حدسيّة".
وفي معرض وصفه لشقائق "خواتم"، يقول الجنابي إنها "ليست موجزةً وإنما وجيزة، وليست قصيرة وإنما مقتضبة. لا إغراق في القول ولا التواءات في الطرح. إنّها في صلب الشعر الذي هو ليس مهنة، وإنما "حارس اللغة ونبيّها". فهي تولد حاملة معها ديمومتها الزمنية المتأثرة بحافز إيقاعي يقصّر دائرتها، يخلّصها من الاستطراد والإسهاب، فتعود تعبيراً خاطفاً، آنيّاً، رسماً بيانيّاً لحركة الذهن".
ويقول أيضاً: "هكذا، جاءت "خواتم 1 و2" كتابين تتقافز فيهما الأفكار، هذه الغنائم الذهنية، من تشخيص دقيق للغة، للشعر، للكتابة، لفراغ العالم القاتل، إلى تشخيصات أكثر دقة للواقع، للأشخاص، لهواجس تستيقظ أثناء التدوين من نوم اجتماعي طويل [...]. أفكار لا تصل إلى طريق مسدود، لأنه بكل بساطة ليست ثمّة طريق قط، وإنما شسوع في كل الاتجاهات حيث "حرية ملاقاة الكلمات لأقدارها".