أنا واحدة من وُحوشي

07 مارس 2017
(الشاعرة)
+ الخط -

وحوش

اليومَ يومُ وحوشٍ حميمة،
لا واحدَ منها في الخارج، فأنا أحملُها في داخلي دون أنْ أُروِّضها.
لديَّ منها بضع عَشرات، رأيتها تكبرُ مذ كانتْ جِراءً جميلةً،
بعضُها تمكّن منْ أن يصير طيوراً، لكنّ هذه صارت وحوشاً. شيءٌ ما يتلوَّى في داخلي ويُغذِّي الغضبَ الموشومَ فيّ، بينما النبعُ الأبدي للّاطمأنية لا يَتعب.
مهما حاول صدأُ الطِّلاءِ أن يُخفي الأسبابَ أحياناً
أو حينما أستطيع إسكاتها بموسيقى موزارت،
فإنّها، الحقيقة الحادَّة، تهدُّني حينما لا أرغب في شيءٍ سوى أن أصفح.
لا يُمْحى الضَّررُ الذي يُلحقُه بك مَنْ كان عليهم أن يُحبُّوك دون شروط، ولأنهم هم أنفسُهم لا يَتَحابُّون، فلا صيغةَ إنسانية لحذف كلماتِهم، حتى ولو نسوها،
تمكث هناك،
منتظِرَةً مثل وحوشٍ كي تُهاجِمَك في أحرجِ اللحظات، حين تكون هشّاً مستعداً للجرح، حين يُفقِدك العالم الشجاعة.
عندما تشمّ الدَّمَ، تخرج فوراً من متاهات اللاوعي المنعرِجة وتَعَضُّ، تُمزِّق، وتخدش، وتجرح، لا تقتلك، لأنها تحتاجُك حيَّاً لتُعيد تعذيبك من جديد.
المشكلة هي شِدَّتُها، وحِدَّةُ أَلَمِ الأحشاء حيث تُهاجِم أعْمَقَ جُرح. جُرحي هو الكرامةَ التي تنازلْتُ عنها، اخْتُطِفتْ مني تحتَ لماذا أولئك الذين يقولون إنهم يُحبُّونك يُذلُّونك هكذا؟ في سعيهم إلى تربيتك يُمزِّقونَك إرباً إرباً. كانتْ لديّ روحٌ غجريّة، فحوَّلوني إلى "هاربي" ، تمنَّيتُ لو أنسى الحِقدَ الذي تُقطِّرُه عباراتٌ فاسدة شأن أنْ لا قيمةَ ثابتة لك، وأنْ لا أحَدَ سيُحبُّكِ، وأنَّكِ لا تستحقينَ شيئاً، لا يهمُّني في شيءٍ ما تقولين، لا تُساوي كلماتُكِ شيئاً، أو تجاهلك لي لأيامٍ ببساطةٍ هكذا، دون أن تكلّمني ونحن نعيش في البيت نفسِه، وأنا أجلس معك.
أمام نفسي، أنصحُني ألّا أنسى، ليس من أجلهم ولا من أجلي، وإنما من أجل من يواصلون العيش لِئلا يُكرِّرون التجربة أبداً.

يقولون إنَّ المرءَ يفهم في النهاية، وفي حالتي لم يكن الأمر كذلك،
الآن وقد نضجت أفْهَمُ أقلَّ،
ينهشُني عدم وعيِه بي وهو معي، أبداً لم أقلِ الأشياءَ التي قالَها لي، ولا زلت إلى الآن أَسْمَعُه في تشغيل دائم لإسطوانة مخدوشة في الدورة ذاتها: لا أُومِنُ بك، لا تستحقّين أنْ يُعانى من أجْلِكِ، لا أُصدِّقُكِ، لا يَهُمُّني في شيء ما تفعلينه، أنتِ مُشْكلةٌ.
يُواصل سَلَّ طَعناتٍ تُغذّي الألَمَ الأوَّليَّ،
هي فعلت ذلك، هو فَعلَهُ، وآخرون أيضاً. أعتقدُ أنّ عليَّ أن أصارِحَه، لكنّ تحيُّزاً إلى احترامه علَّمني أن أصمُتَ، لا يَهُمُّ الأذى الذي سيصيبني، لا يَهم ما تقولُه النظريّةُ عن إجراءِ الصَّفح، أعرفُ أني سأرغبُ في الموتِ قبل أن أُخبره بالأذى الذي ألْحقه بي، لكني لا أعْلَمُ، ربّما لا أعرف ذلك وأنَّ الجرْحَ القادم حين ستشُدُّ الوحوشُ عليَّ الخناقَ مجدَّداً، سَتَصْدُرُ عني صرخاتٌ خامدة شأني دوماً.
الشيءُ الوحيد الذي لا أسمح به لوحوشي هو خروجُها مني، أو أن تَدَعَنِي أنجرف في هذا الحزن الشاسع. أنهض، أبكي، ألتهم مانْدَرينةً بُرتقاليّةً بالكامل ومليئة بالعصير، كي أُذكِّر ذاتي في هذا الوضع الثابت بأنّ مَنْ يَتَّبعونني لا يُمكنُهم ولا يَلْزَمُهم أنْ يمرُّوا بما مررْتُ به. إنْ فعلتُ ذلك، فسأكون أُقِرُّ لهم بأنّ التعنيفَ، والضَّربَ، والقهر، والتضييق، والإخضاع هي أفضل وصفة لِصُنع البشر.
أعترف أني لستُ أنا،
أنا واحدة من وحوشي أكثر من كوني إنساناً،
ربّما لهذا السبب يُعجِبُني المتمرِّدون، والذين لا يمكن تطويعهم، وأولئك المنعزلون، والمومسات، والساحرات، فهم يُعانقون وحوشَهم، ويَسْعَون إلى ترويضها بأجسادهم، وبالجنس والسِّحر وعدم الاستسلام لما هو مُعدّ مسبقاً.
كيف أفْلَح في ترويض الوحوش التي تَسكُنُني؟
لا يزال لُغْزُه كخَلّاب وساحر وفنَّانٍ نسَّاج، ونافخ مزمار هامْلِين بفنٍّ وموسيقى تستهلّ لحْناً كي تُخرجني من الحفرة المعتمة التي تسحبُني وحوشي إليها.
لا أزال ألْحَسُ جراحي والقطرات المستديرة التي تلاحقني، فوحوشي تغفو، تناغيها أَصْواتُها، والأيدي الصغيرة التي تحبّني، والعيون الكبيرة بِلَوْن القهوة التي تنظر إليّ، ونداءُ رفيقي في الجحيم، كي يهتمَّ بأمري.
أهِيَ؟ ذلك النداء، ذاكَ لن يأتي أبداً.



وجود

لمْ أتبيَّنْ جيّداً، فأنا
آلافُ النظريّات، أسبابٌ يتعذَّرُ شرحُها، لا يمكن إيجادها،
وسأَصِلُ حينما يكون عليَّ أن أُقدِّمَ شُروحاً
أكْتُبُ لي، لأني عليَّ أنْ أبرِّرَ لنفسي هذه النّدبة التي تتقيَّحُ منذ سنوات،
كانَ عُثوري علَيَّ سيراً في طريق طويلٍ، وصعْبٍ، ومُزدَحِم وخطير،
حينما أنظر في داخلي أُصادِفُ فِيرْنَ، وبْرُونْتِي، وديكِنْز، وألِينْدِي، وبارْدُو، وبِيّي، ونيرودا، وداريّو، وحتى دانِيِّيلز وبْريمير، وتتراكم القائمةُ التي لا تُحصى في رفوف تستسلم لثقْل الورق القديم، لكنَّ هذا الذي سأكتُبُه ليس سيرةً، وما أظُنُّني أستطيعه، فالحياةُ التي تُكْتَبُ تنقضي، والتي تُتَقاسَمُ تُحلِّق إلى الأبعد، وعدمُ قيامي بذلك يُدنيني من الحيِّز الحميم الذي أوَدُّ صَوْنَه.
البنفسجيُّ في اليديْن ليُذَكِّرني بالماضي، يُصَفِّي أفكاراً لا تُفلح في أنْ تَثْبُتَ في حياتي، وفي فضائي، وفي ما هو أبْعدُ من الْمَسير. يُذكِّرني بخنوع كُلِّفتُه ولمْ أُحاكمه مُمسِكَةً به.
لِمَ التَّنكُّر؟ لم أُقاضِ بعْدُ ولا نيّةَ لي في التوضيح،
على كلِّ واحدٍ أنْ يُلملمَ من الحياة ما يَقْدِرُ أن يستخلص به شروطَه الخاصة، وما لها من لون معزوف للفضاء الذي يجذبني إلى طُولٍ لَسْتُه،
وإلى لحظةٍ ليست لي،
وإلى لاوَعْيٍ ليس لي،
وإلى الوحوش التي تترصّدني من وراء الهُدْب الأيسر، من وراء العيْنِ
التي أصادفها في كلّ مكان محظور.
أنا مقترنة بنفسي،
هذيانُ حلمٍ عاصِف مجدِّف، ليس لأجل الإله، إنما لأجْلِي
ليس لأجله، إنما لأجْلها،
بُطيْنٌ مفتوحٌ لشيءٍ غير واضحةٍ معالمُه، اليومَ فقط، يُندِّدُ بي.



موت بطيء

جالسةً أمامَ الفضاءِ الذي كُنْتُه،
تَرْتَسِمُ حالي كاملةً على الابتسامةِ المُجمَّدَة لأسبوع العمَل هذا.
واحد فقط
مساءٌ مُشمس
ومساءُ نوارسَ
تتراكمُ في عيْنَيَّ
أنتظر أنهاراً،
أنتظر سماوات،
لا أَعْرِفُ بِمَ أُجيب وأنا أراني أمامَ أسى انتِهاكي.
صيَّرتُ قمري فضاءً مجازيّاً من شموس،
حوَّلْتُ الهواءَ أسباباً للخيانات
ولا يُمكنُ إلّا أن أراني في سعادة قُصوى،
وأكون في الختام ما كُنْتُه،
وأكون أكثرَ قليلاً فقط ممّا عِشْتُه.
يهزّني شيءٌ ما في الفضاءات،
لديَّ دموعٌ كثيرة على وشك التساقط
وكثير من القصص تُقيم
في هذا الموت البطيء.


________________________

غواتيمالا المتوارية


تحاول غواتيمالا أن تتعافى من جراح ما اصطلح على تسميته بالحرب الأهلية، ولا تنفصل الشاعرة كلارا فرناندث (Clara Fernandez) عن محاولات هذا التعافي. اليوم لم تعد تنتظر عودة والدها المخطوف في الحرب الأهلية حين تبادل النظام العسكري ومناوئيه عمليات الخطف التي أسفرت عن أكثر من أربعين ألف مفقود. بلاد جريحة وفائقة الجمال يتوارى مشهدها الشعري في القارة اللاتينية الذي يهيمن عليه شعراء إسبانيا والمكسيك والتشيلي.

* ترجمة عن الإسبانية مزوار الإدريسي

المساهمون