أنا في التاسعة والستين

13 ابريل 2016
(Getty)
+ الخط -
أنا في التاسعة والستين من عمري تقريباً، ولديّ مشكلة في الأعصاب، وجسد هزيل، وغرفة دافئة، وابنة تقوم بزيارتي كل فترة. لا أتذكرُ أمها جيداً.
لكن ابنتي أخبرتني أنها ماتت منذ سنين طويلة، أبي أيضاً مات منذ زمنٍ بعيد.
لقد كان نجّاراً، يحب كل أنواع الخشب، ويصحبني معه إلى عمله في العطلات المدرسية، لم أحبّ كل الأخشاب مثل أبي. أحببتُ خشب الأبواب، وما زلت أتذكر باب غرفة جدتي، المصنوع من الخشب الرخيص، المطليّ بأزرق باهت، وكيف كنت أتمدد على البلاط، أتلمس خشب الباب، وأشمُّ رائحته الممزوجة برائحة الطلاء القديم.
حلمتُ بخشب القوارب، ولم ألمسه مرةً.. تخيلتُ رائحته الممزوجة برائحة البحر والأسماك في كل ليلة.

أنا في التاسعة والستين من عمري، ولديّ مشكلة في الأعصاب، أحبُّ رائحة الخشب، ورائحة سريري الخشبي الآن ذكرتني بأبي.
ولدتُ في الشتاء، وقبل ولادتي أمسك ﺍﻟﺨﻮﻑ ﻗﻠﺐ ﺃﻣﻲ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺃﺑﻲ ﻛﺎﻥ ﻳﺤﻠﻖ ﺫﻗﻨﻪ، ﺍﻷﻭﻻﺩ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺳﺒﻘﻮﻧﻲ، كانوا ﻳﺨﺘﺒﺌﻮﻥ ﻓﻲ ﻏﺮﻓﺔ ﺃﺧﺮﻯ، ﻳﺨﻔﻔﻮﻥ ﻣﻦ ﻗﻠﻖ ﺑﻌﻀﻬﻢ. ﻭﺃﻧﺎ ﻋﺮﻓﺖ ﻣﻦ ﺍﻟﺜﻮﺍﻧﻲ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﺃﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﺁﺧﺮين، ﻭﻣﻦ ﺍﻟﺨﻮﻑ ﺍﻟﺬﻱ ﻛﺎﻥ ﻳﺴﻴﻞ ﻣﻦ ﺃﻋﻴﻨﻬﻢ، ﻋﺮﻓﺖ ﺃﻥ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﺮﻋﺐ.
ﺍﻵﺧﺮﻭﻥ ﺍﻟﺘﻘﻄﻮﺍ ﺍﻟﻤﻮﻟﻮﺩ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ، ﻓﺮﺣﻴﻦ ﺑﺂﺧﺮ ﺳﻴﺘﻘﺎﺳﻢ ﻣﻌﻬﻢ ﺧﻮﻓﻬﻢ .ﻛﺎﻥ ﻫﺬﺍ ﻣﻨﺬ ﺳﻨﻴﻦ ﻛﺜﻴﺮﺓ، ما ﺯﺍﻝ ﻫﻨﺎﻙ ﺁﺧﺮﻭﻥ ﻳﺼﻬﺮ ﺍﻟﺨﻮﻑ ﻣﻼﻣﺤﻬﻢ، ﻟﻴﺠﻌﻠﻮﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻜﺎﻧﺎ ﻣﺮﻋﺒﺎً.


أنا في التاسعة والستين من عمري ولديّ ابنة لا أتذكر والدتها، لكن ابنتي تقول إنها كانت تحبني وبأنها ماتت منذ زمن بعيد.
كنت موظفاً بسيطاً، لم أكره عملي، ولم أحبّه، وكأنّي خُلقت لأكون موظفاً بسيطاً وعليّ أن أقوم بمهمتي، ولم أصارع قدري يوما، لم أر أن هناك شيئاً يستحق ذلك.
لكنّي كنت أحسد العاطلين عن العمل، وممثلي التلفزيون، والعاهرات، وصيادي الأسماك الذين يقضون عملهم برفقة خشب القوارب.
أنا في التاسعة والستين، ولديّ مشكلة في الأعصاب، وكنتُ أحبّ المطر.لا أتذكر بأني أحببت امرأة طيلة حياتي، ولا أتذكر زوجتي، لكن ابنتي تقول إني أحببتها كثيراً، وأنها ماتت.

لم أخف من الموت ولم أفكر به، لكني افتقدت صديقي الأخير حين مات، رغم أني لم أشعر نحوه بأي عاطفة، افتقدتُ مع غيابه المشي إلى الحديقة المجاورة، وشرب الأعشاب المغليّة، وأحاديثنا عن أمراضنا. لم أحضر دفنه، يرعبني خشب التوابيت وملمسه الناعم، ورائحته التي لا تشبه رائحة بقية الأخشاب.

أنا في التاسعة والستين، تقريباً، وجسدي يرتعش في الليل، كنت في الثلاثين منذ وقت قريب، ولا أتذكر أني كنت يوماً في الأربعين، الخمسين...
لديّ سرير مصنوع من خشب الجوز، وصورةٌ بجانب السرير لامرأةٍ لا أعرفها.
أخبرها كل ليلة، أنّي صرتُ في التاسعة والستين، تقريباً، ولديّ مشكلة في الأعصاب، وأنّي أخاف
النوم وحيداً.
دلالات
المساهمون