غرفتي باردة في الصيف والشتاء. في النّهار واللّيل. طوال العام ومنذ أكثر من عشر سنوات. أرجوكم، لا تذهبوا بعيداً كما يقول المنشّط التلفزيوني قبل الوصلة الإشهارية. لا تفكّروا في قصص ألف ليلة وليلة. لا في شهريار المسترخي وسط مخدّات بخيطانٍ من حرير. ولا في شهرزاد التي تُطعمه من عنقود العنب حبّة حبّة. لم يعد أحدٌ يتحدّث عن قصص ألف ليلة وليلة في العصر النيتروني وأشعّة الليزر. في زمن الحروب والجثث التي يحصيها الصحافيون في نشرات الأخبار.
أعضائي باردة، هذا ما أريد أن أفصح عنه. عبثاً تدثرتُ بالملاءات. وبلا جدوى أشعلت النّار وأفرجتُ بين رجلي وتدفّأت على طريقة أبي. ولا شيء تغيّر بعد الركض والشهيق والزفير في نادي الرياضة كما نصحني أحدهم. أنام في بركة ماءٍ وأرتجف. أهشّ على الضفادع برجلي وأتستّر على الألم بالأدعية وقِصار السوّر كما تتستّر الفتاة القرويّة على جرحٍ في غشاء البكارة بالصمت. أتوسّل إلى رأسي بالحليب والفطائر كي يرافقني إلى العمل. فيما صدري مسبح بلدي حقيقي يتلاعب فيه الأولاد بالماء، يبتعدون تم يرتمون على الرؤوس والأرجل في المستطيل البارد كما اتفق.
البارحة تشجّعتُ وكسّرت الصمت. وضعتُ يدي اليمنى على رأسي واليسري على صدري وعرضتُ أعطابي على جدتّي لأول مرّة (يا ليتني ما فعلت). وكم كانت دهشتي عندما استوت العجوز في جلستها وأخذت تستفيض في شرح التصميم المعماري للحيّ زنقة زنقة وبالوعة بالوعة إلى أن وصلت إلى مربض الفرس، فأخبرتني أنّ غرفتي مشتركة بحائطٍ مع مرحاض جارنا العزيز. وضعت النتيجة أمامي داخل إطارٍ كأستاذ الرياضيات وذهبت لتنام.
نعم، سبعة أفراد يتناوبون على اِستعمال حفرة دورة المياه المركونة قرب رأسي. يتبوّلون ويفرغون أوساخ السوق قرب جمجمتي، ونتزاور في الأعياد ونتبادل القبلات على الخدود كما لو أنّ لا أحد يضّر الآخر. يا اللّه! كم كنتُ واهماً طوال هذه السنوات حين كنت أختار ملابس الخروج من الدولاب بذوقٍ رفيع مستعينا بمجلّات المشاهير. حذائي كان دائمًا من جلدٍ خالص يلمع فوق الرصيف فيزداد وزني في الميزان وأضحك. أتعطّر من قوارير فصيحة، رشّة تحت الأذن وأخرى على الرقبة. أنتعش وأخرج رافعاً رأسي إلى السماء كطاووس. أعود محمّلاً بالفواكه والأسرار كلّ مساء شاهرًا سعادتي للريح وللجيران.
والآن؟.. اِهتزّ عرش كبريائي وسقطت الكأس من يدي. انكشف الطلاء عن أظافري المشقّقة وتعزّز اِنتمائي لفئران البالوعات. لم أعد مؤهلاً نفسيّاً ولا وجدانياً للجلوس حول طاولة الأكل ولا حتّى لأطالع وجهي في المرآة. أمّا كتابة الأشعار، وفرقة الأصابع بين قصيدة وأخرى فهذه مهمّة تركتها لكم منذ البارحة.
وبعد، هل أحفر نفق المترو بالملعقة وأركب القطار من الغرفة كي لا يراني أحدٌ؟
هل أقفُ محتجّاً أمام باب جارنا بصوري الفوتوغرافية القديمة والجديدة وبعكّاز جدّتي؟ على مهندس البلديّة بلافتةٍ كبيرة وتظلّم مكتوب أعمّمه على الجرائد الوطنية والدولية؟ على مدرسة المهندسين المحمّدية بإضراب عن الطعام والتهديد بإضرام النّار في أعضائي البالية؟
من سيقف بجانبي في محنتي، جمعيّة حقوق الإنسان أم جمعيّة حقوق الحيوان أم جمعيّة آباء وأولياء التلاميذ؟ ومن سيعوّض خسارتي، صندوق النقد الدولي أم الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي أم البنك الشعبي؟
كل ما أريده هو أن تعود الحرارة إلى جسدي وأتخفّف من ملابسي الصوفية. أن يسعفني رأسي عندما أحتاجه دون أن أدفع له رشوة. أن يستعمل أستاذ السباحة صفّارته ويغلق الحرّاس أبواب المسبح ويعود الصغار إلى أمهاتهم والهدوء إلى صدري. أريد عينين صافيتين لأقرأ رسائل الليل التي تصلني بالبريد المضمون. وآذاناً خاليّة من السخام لأسمع صفّارات الإنذار التي يرسلها الله إلى العباد محشوّة في طرود الرعد وشرارات البرق.
لا أحب النظارات الطبيّة ولا السمّاعات المحشوّة في قوقعة الأذن، فأنا رجل بدائي ومتحالف مع الطبيعة وأتأفّف من صور الأعضاء الاصطناعيّة. أريد أن أتحسّس الفراشات في قمصاني، وأسمع سقسقة العنادل حول رأسي وخرير النواعير البعيدة في خطواتي. رأسي أريده فارغاً من أفكار الفلاسفة وكتب pdf. فقط أحتاج إلى نايٍ من قصب في فمي وعصا من شجرة سفرجل في يدي كي أعزف للغيوم الهربانة وأرعى الشياه والأبقار في حواشي الوديان. أشرب اللبن من طستٍ نحاسي وأتمدّد تحت الشجرة شاهراً بطني والناي في وجه الريح.. أمّا المهندس الغشّاش والجار البهلوان فوحدك إلهي تعرف القصّة من أوّلها إلى آخرها.
* كاتب من المغرب