هناك أشياء تعودت أن أذكرها كلّ يوم..
مثلاً، حين كنتُ في التاسعة من عمري، قبلتني أمي قبلة وضمتني إلى صدرها -بعد دقائق فارقتني- حينها لم تخبرني أنها ستصعد السماء كتنهيدةِ الروح، وأن الغياب الذي يأتي من أرضٍ خلف التلال لا يسأل الأرواح لمن خلّفت أحلامها تنوح في عيونِ النهار.
كنتُ فتىً أخضر -ليّ ظلّ و ماء- أحبّ الحياة ولا أملُّ وجه الأرض، كانت الحياة جنة تعجُّ بالعطرِ والإلهام والغناء، وكانت أمي طفلةً صغيرة - في باحةِ الدار، يتناثر القمح من وجنتيها لسربِ حمامٍ يغني بالحبِّ والصباح، كنتُ أعلّمها صنع طائرات من ورق لتجريب الطيران فوق السطوح الواطئة، لتدريب الهواء على الجلوس في زاويةِ البيت وخمش نوافذ البنايات العالية، أعلّمها رسم قلب بهِ عاشقان وحدائق وبالونات فرح، كنت أكتب لها حروف اسمي على عقدٍ من سنابل يضيء ضفيرتيها، وأقطف لها أعشاش العصافير من أغصانِ اللهفة الصادقة، أقرأ لها ما حذفته المناهج مني، وما كتبته القصائد عنها، كانت أمي تخيط أثواب الأربعين من عمرها بإبرةِ الرحيل الذي أحرق خضرة حياتي تماما.
أمي ليست مفردة تكتب أو نصا للقراءة، أمي جمعت جمال كل الأمم، أمي وطن نمتُ في ضفافِ أنهارها، رضعتُ حليب أرضها، أكلتُ رغيف وجهها، أعدّتُ لها ما استطعت من القهر والحزن والحنين، أيتها السماء أنا لم أقتل أمي، ماتت وهي تحلم بالحرية!
وأذكر النساء اللواتي رُبّيت بين أيديهنّ، وهنَّ يصرخن لرؤيتي مغموسا بالطينِ واليتم حتى رأسي المتلفّع بالخوف، فأختبئ في مسامات جلدي، أعدُّ خيبات طفل كان يشاكس ريح الصباح ويمزج تراب روحه بدموع الغيم، النساء اللواتي علمنّني الكتابة وقراءة القرآن، دروس الجهات والمسافة، يحسبْن خطواتي إلى عتبة الباب لأكتشف أن لا بيت لي، لا نوافذ تسرد هواي الدفين، لا مصابيح لأحلامي سوى الدموع، لا عصافير تطير بضحكةِ أمي، حتى أزهار قلبي سحقتها خطى المُعزّين، أيّتها النساء اللواتي يدعونني إلى بيتٍ مؤثث، أنا الطفلُ اليتيمُ في شوارعِ الله -لا دهشة في زماني- أمشي على وجهي، فوق جثة أمي وأكتبُ ما استطعت من القصائدِ والأغاني!!
أتذّكر حينَ كنتُ في أولِ يومِ سجّنٍ في المدرسة، كان نهر الألوان يجري في جنةِ الأحلام، وكانَ الطلابُ يأكلهم الصمت والخجل، وكنتُ أذيبُ كلّ أصابعي في رسومِ الأطفال والأغاني وعلم البلاد!
أتذّكر حينَ كنتُ -وتلعثمت رغم إرادتها وعضّة على جرحٍ بِاتّساعِ صحراء- أن الجنود الذين غلّفهم أصدقاؤهم بالتراب، كانوا يرُشّون وردَ المدينة بالرصاصِ والشّتائم والضحك، ويقتلون طيور حارتنا الأسيرة سلالةً سلالة، بحجةِ أن الأرض لمن يفتحها، وأن أغاني الطيور الحرة لا تطرّب آذان الجنود!
أتذّكرُ حينَ كنتُ في البلاد، كانت الأرض أغنية مُفرحة، وكان الصباح سرب عصافير يلهو بهِ الأطفال في سريرِ الشمس، وكنتُ أمضغ عشب الجزيرة في مقاهي النهر، وأنامُ قليلاً.
مثلاً، حين كنتُ في التاسعة من عمري، قبلتني أمي قبلة وضمتني إلى صدرها -بعد دقائق فارقتني- حينها لم تخبرني أنها ستصعد السماء كتنهيدةِ الروح، وأن الغياب الذي يأتي من أرضٍ خلف التلال لا يسأل الأرواح لمن خلّفت أحلامها تنوح في عيونِ النهار.
كنتُ فتىً أخضر -ليّ ظلّ و ماء- أحبّ الحياة ولا أملُّ وجه الأرض، كانت الحياة جنة تعجُّ بالعطرِ والإلهام والغناء، وكانت أمي طفلةً صغيرة - في باحةِ الدار، يتناثر القمح من وجنتيها لسربِ حمامٍ يغني بالحبِّ والصباح، كنتُ أعلّمها صنع طائرات من ورق لتجريب الطيران فوق السطوح الواطئة، لتدريب الهواء على الجلوس في زاويةِ البيت وخمش نوافذ البنايات العالية، أعلّمها رسم قلب بهِ عاشقان وحدائق وبالونات فرح، كنت أكتب لها حروف اسمي على عقدٍ من سنابل يضيء ضفيرتيها، وأقطف لها أعشاش العصافير من أغصانِ اللهفة الصادقة، أقرأ لها ما حذفته المناهج مني، وما كتبته القصائد عنها، كانت أمي تخيط أثواب الأربعين من عمرها بإبرةِ الرحيل الذي أحرق خضرة حياتي تماما.
أمي ليست مفردة تكتب أو نصا للقراءة، أمي جمعت جمال كل الأمم، أمي وطن نمتُ في ضفافِ أنهارها، رضعتُ حليب أرضها، أكلتُ رغيف وجهها، أعدّتُ لها ما استطعت من القهر والحزن والحنين، أيتها السماء أنا لم أقتل أمي، ماتت وهي تحلم بالحرية!
وأذكر النساء اللواتي رُبّيت بين أيديهنّ، وهنَّ يصرخن لرؤيتي مغموسا بالطينِ واليتم حتى رأسي المتلفّع بالخوف، فأختبئ في مسامات جلدي، أعدُّ خيبات طفل كان يشاكس ريح الصباح ويمزج تراب روحه بدموع الغيم، النساء اللواتي علمنّني الكتابة وقراءة القرآن، دروس الجهات والمسافة، يحسبْن خطواتي إلى عتبة الباب لأكتشف أن لا بيت لي، لا نوافذ تسرد هواي الدفين، لا مصابيح لأحلامي سوى الدموع، لا عصافير تطير بضحكةِ أمي، حتى أزهار قلبي سحقتها خطى المُعزّين، أيّتها النساء اللواتي يدعونني إلى بيتٍ مؤثث، أنا الطفلُ اليتيمُ في شوارعِ الله -لا دهشة في زماني- أمشي على وجهي، فوق جثة أمي وأكتبُ ما استطعت من القصائدِ والأغاني!!
أتذّكر حينَ كنتُ في أولِ يومِ سجّنٍ في المدرسة، كان نهر الألوان يجري في جنةِ الأحلام، وكانَ الطلابُ يأكلهم الصمت والخجل، وكنتُ أذيبُ كلّ أصابعي في رسومِ الأطفال والأغاني وعلم البلاد!
أتذّكر حينَ كنتُ -وتلعثمت رغم إرادتها وعضّة على جرحٍ بِاتّساعِ صحراء- أن الجنود الذين غلّفهم أصدقاؤهم بالتراب، كانوا يرُشّون وردَ المدينة بالرصاصِ والشّتائم والضحك، ويقتلون طيور حارتنا الأسيرة سلالةً سلالة، بحجةِ أن الأرض لمن يفتحها، وأن أغاني الطيور الحرة لا تطرّب آذان الجنود!
أتذّكرُ حينَ كنتُ في البلاد، كانت الأرض أغنية مُفرحة، وكان الصباح سرب عصافير يلهو بهِ الأطفال في سريرِ الشمس، وكنتُ أمضغ عشب الجزيرة في مقاهي النهر، وأنامُ قليلاً.
الآن أتذّكر فتاة البارحة -فوق جسر الانتظار- وهي تروي يتامى الأرض وقصتها بهدوءٍ حزين.
أنا الفتى الذابل من فراق أمي، أجلسُ على زاويةِ شارع الذكريات الطويل، أنتظر، ريثما تعود آخر نهار الحرب، لأحكي لها عن زمانٍ تزّيف بالأصدقاء، عن الأمنيات القصيرة كالحياة، عن النساء وأنا مشتعل بالعذابات، عن فتاةٍ استرخت على أريكة النص فراحت تشير إلى منتصفِ الحبِّ، عن الجزء المحذوف من رسالة الغياب وخالتي المنتظرة خطأي القلقة في قطارِ الحرب الضاربة بالحناءِ والتراب، عن حذائي الذي ما زال مثقوبا وأحلم أن أركل بهِ كرة هذا العالم الفاسد، كي تعود سيرتها الأولى!
(سورية)
أنا الفتى الذابل من فراق أمي، أجلسُ على زاويةِ شارع الذكريات الطويل، أنتظر، ريثما تعود آخر نهار الحرب، لأحكي لها عن زمانٍ تزّيف بالأصدقاء، عن الأمنيات القصيرة كالحياة، عن النساء وأنا مشتعل بالعذابات، عن فتاةٍ استرخت على أريكة النص فراحت تشير إلى منتصفِ الحبِّ، عن الجزء المحذوف من رسالة الغياب وخالتي المنتظرة خطأي القلقة في قطارِ الحرب الضاربة بالحناءِ والتراب، عن حذائي الذي ما زال مثقوبا وأحلم أن أركل بهِ كرة هذا العالم الفاسد، كي تعود سيرتها الأولى!
(سورية)