أمين الريحاني ناقداً للترجمة

07 مارس 2020
(الريحاني في بورتريه لـ مصطفى فرّوخ)
+ الخط -

عُرِف الكاتب اللبناني أمين الريحاني (1876 - 1940) بكونه أديباً ورحَّالة جاب بُلداناً من العالم العربي، وأصْدر كُتب رحلات هي "مُلوك العرب"، و"قلب العراق"، و"قلب لبنان"، و"المغرب الأقصى"، واشتُهِر بإيمانه الراسخ بالوحدة العربية، وبالتزامه بالقضية الفلسطينية، التي عانى كثيراً بسبب دفاعه عنها في الولايات المتّحدة الأميركية.

وللريحاني كِتابُ رحلةٍ شهيرة إلى إسبانيا هو "نور الأندلس"، أنجزه صيفَ سنة 1939، مباشرةً بعد انتهائه من رحلته إلى المغرب الأقصى، ولم تكن الرحلةُ مُبرمَجة لديه، بل قام بها استجابة لدعوةٍ من الديكتاتور فرانكو، المستعمِر لشمال المغرب، بقصد التعرُّف على واقع حال إسبانيا من جهة أولى، وللدعاية في العالم العربي لهذا المستبدّ، بَعْد العزلة التي ضربتها على حُكمِه العسكري دُوَلُ أوروبا قُبيل الحرب العالمية الأولى.

لم تكن نيّة المستعمِر؛ كاتِمِ أنفاس الأحرار وقاتل الشعراء والمفكِّرين لتنطلي على أمين الريحاني، الذي لم يُخفِ احتجاجَه وحتى تحريضه على التحرُّر منه، ضارِباً أمثلة من التاريخ تؤكِّد حتمية استقلال الشعوب؛ كقوله: "لا تقوم النهضة العربية الثقافية الوطنية وتزدهر ازدهاراً شاملاً، إلا بعد أنْ يخرج الأجانب المسيطرون من البلاد العربية".

خاض الريحاني في كتابة الرحلة، وهي جنس أدبي لم يتوقَّف عن التخلُّق منذ ظهوره، وعن الانفتاح على اللامُتوقَّع، وفيه نجد تقاطعات واضحة مع جنس أدبي آخر هو الترجمة، ولعلَّ أهمَّ تلك التقاطعات اشتراكهما في كونهما مُنجَزيْن نصِّيّيْن، يتوسَّطان بين ثقافتيْن عبر استضافة الآخَرِ نصِّيّاً، والاعترافِ بمجتمعه وثقافته الغريبَيْن، للإفادة ولتحقيق التلاقُح بين الاثنيْن: الذات والآخر، بحثاً عن التعايش والتفاهم في مجتمع الخير.

وأزعم أن شيئاً من ذلك تُفصح عنه "نور الأندلس"، التي تحفل بمعارف متنوّعة وخبرات مختلفة، لعلّ من اللافت فيها ذلك الفصل الذي عنْوَنه "إشبيلية"، والذي يحفل بصفحات عن التاريخ والمعمار والعادات وغيرها، خصوصاً الفنَّ التشكيلي الإسباني.

لقد أبرز الريحاني ثقافة ووعياً فنِّييْن متميِّزيْن؛ بخوضه في تاريخ الفن وفي بعض إشكالاته، وفي التعريف بأعلامه، كقوله: "وها هنا أريد أن أقول كلمة في "الإمْبْرِثْيُونِيزم"، وقد أضع لفظة عربية لها. فما هو أصل اللفظة الفرنسية، وما هو معناها؟ أوَّل من خرج على المدارس الرسمية، وراح تَوّاً إلى الطَّبيعة يستخبر حالَها، ويستطلع أسرارها، هو إِدْوارْ مُونِهْ، وأوَّل ما قرَّره مُونِه هو أنَّ مظهر الأشياء الزائل هو أهم للفنَّان من مظهرها الدائم. ثم شرع يدرس هذه المظاهر الزائلة في الأنوار والظلال، والأشياء الجامدة والمتحرّكة، ويصوِّرها في تلك الأحوال وهو متأثّر بها، فلُقِّب لذلك بالإمْبْرِثْيُونِسْت".

يُقدّم الريحاني نبذة عن مذهب "الإمْبْرِثْيُونِيزم"، بالتطرّق إلى الروح الثورية التي طبعته؛ مُمثَّلة في الاهتمام بفكرة الزوال والتماهي مع الطبيعة حَدّ الفناء فيها. لكنّ الذي لفت نظري أكثر هو انتباهُه إلى الترجمة غير الموفَّقة التي أطلقها، آنئذ، نُقّادُ الفنّ العربُ على هذا المذهب الفني أو المدرسة الفنية الأوربية المعروفة بـ "الإمْبْرِثْيُونِسْت".

لقد رأى الريحاني في إطلاق اسم التأثيرية على "الإمْبْرِثْيُونِيزم" في إبّانه، وهو إطلاق لا يزال يُتداول للآن في النقد الفني العربي، عدَمَ فهم وانحرافاً عن القصد منه. واعترض عليه بمبرّرات أصَّلها مُستنِداً إلى الثقافة العربية بإرثها اللغوي الثَّري، في قوله: "وترجَم كُتَّابُنا اللفظةَ إلى العربية ترجمة حرفية فقالوا: الفنان التأثيريّ والمدرسة التأثيريَّة. وهذا في نظري خطأ؛ لأن التأثير ممكن أنْ يكون دائماً وزائلاً، ولا يُرادُ بالأصل الفرنسي غير الزائل كما قدَّمت. وإنَّ في لغتنا العربية لفظةً تؤدّي هذا المعنى كاملاً في مادة فعل. فمن اشتقاقاتها الفعل... ".

وهاك بقية الخبر من القاموس:

"الانفعال عند الحكماء التأثَّر، والانفعاليات عندهم الكيفيات الراسخة المحسوسة كصفرة الذهب، والانفعالات هي الكيفيات المحسوسة غير الراسخة -الزائلة- كصفرة الخوف (القاموس) أو كصفرة الأفق المقابل لمغرب الشمس.

إذن، يصح ويجب أنْ نقول: مدرسة الانفعالات، والفن الانفعالي، والفنانون الانفعاليون، وصورة انفعالية".

يتأكَّد لنا بهذه العينة من النقد التَّرجَمي أنَّ الترجمة كانت حقلاً معرفياً يحظى بالعناية الكافية من مُثَقَّفي النهضة، الذين كانوا يَعُون جيّداً أنَّ المجال الثقافي دِعامة أساسية لها، وأنْ لا نهضةَ تقوم إلّا بتضافر العلوم وتَكامل المعارف، وأنَّ ما ينبغي ترجمتُه يقتضي أن يكونَ مؤصَّلاً أو بعبارة طه عبد الرحمان مؤثَّلاً وتأصيلياً.

المساهمون