24 مارس 2023
أميركا وإيران.. الحرب المستحيلة والسلام الممكن
محمد اليحيائي
لم تكن الحرب بين أميركا وإيران خيارا ممكنا، أو حتى محتملا في أي يوم، وحتى مع تصاعد التوتر في الخليج هذه الأيام، ووجود إدارة أميركية لا يمكن التنبؤ بتصرفاتها، فإن الحرب ليست في وارد الحال. ومن يعرف تاريخ العلاقة بين الطرفين خلال الأربعين عاما الماضية، يعلم جيدا أن حلبة الصراع بينهما تحتمل كل شيء، من الحرب بالوكالة، كما كان الحال في حرب صدّام حسين على إيران بهدف إفشال الثورة، إلى تقديم كل طرفٍ للطرف الآخر التسهيلات والمساعدات لمحاربة الخصوم المشتركين، مثلما كان الحال في حرب أميركا على مسلحي تنظيم القاعدة وحركة طالبان في أفغانستان في أعقاب هجمات "11 سبتمبر" في عام 2001، وأيضا حربها على العراق واحتلاله عام 2003، وأيضا كما هو حال التدخل الإيراني في كل من سورية واليمن بعد عام 2011، والذي لم يكن ليتم، على هذا النحو الواضح والكبير، من دون غضّ الطرف من الولايات المتحدة... كل شيء ممكن إذاً في حلبة الصراع بين الأميركيين والإيرانيين، بما في ذلك أيضا اللعب على مخاوف العرب، بغرض إخضاعهم وابتزازهم، ولكن وحدها الحرب المباشرة تبدو غير ممكنة.
في الوعي الجمعي الأميركي، تحضر إيران (أو فارس) في صورة "الأمة المتحضرة"، حيث السحر والشعر والفن والطعام الشهي، وهي ذاتها الصورة التي تحتلها تركيا العثمانية في الذهن الأميركي، فحين يأتي الحديث عن كتاب "ألف ليلة وليلة"، مثلا، والذي تُرجم إلى الإنكليزية تحت عنوان "الليالي العربية" لا ترد بغداد ولا القاهرة للأسف، على الرغم من أن الليالي عربية، وجل أحداثها في بغداد، إنما فارس وأصفهان وشيراز. كما أن صورة إيران مرتبطة بالفردوسي وسعدي الشيرازي وحافظ، فحضور شعراء إيران في الذاكرة الثقافية الأميركية، والغربية عموما، يفوق حضور شعراء العرب الكبار كامرئ القيس والمتنبي وأبي تمام. وليست هذه السطور هنا بصدد المقارنة بين صورتي العربي في الغرب والإيراني أو الفارسي،
فالعرب، سيما حكامهم وحكوماتهم، ارتكبوا وما يزالون يرتكبون ما يكفي من الحماقات لتكريس تلك الصورة النمطية البشعة للإنسان العربي.
وإذا كانت الصورة السياسية لإيران قد تغيرت بعد ثورة الخميني عام 1979، وانتقلت من خانة الصديق إلى خانة العدو، فإن هذا التغير لم يؤثر كثيرا على الوعي الشعبي الأميركي، وإنما على الوعي النخبوي السياسي، أو على مجتمع العاصمة واشنطن وجماعات الضغط المختلفة التي تخدم أطرافا وجهات محدّدة، كإسرائيل وشركات السلاح، وحتى لدى النخب السياسية الأميركية، فإن صورة إيران تبقى انتقائية ومصطنعة وقابلة للتغير، على خلاف صورة العالم العربي الراسخة.
سافرت، في صيف 2007، منتجة الأفلام الوثائقية، الأميركية جاستين شيبيرو، مع ابنها البالغ ست سنوات، إلى إيران، وكان هدف رحلتها، وعلى خلفيته أنتجت فيلما وثائقيا شائقا، ويستحق المشاهدة، عنوانه "صيفنا في طهران"، رغبتها في أن تلتقي بأمهات إيرانيات، أو أن تلتقي أمهات أميركيات وأمهات إيرانيات قبل أن يلتقي أبناؤهن على جبهات القتال. قضت شيبيرو وابنها أشهر صيف ذلك العام ضيفةً على ثلاث عائلات إيرانية، من بينها عائلة متدينة، يعمل الأب في الحرس الثوري، وعادت بنتيجة (أظهرتها في الفيلم) أن الإيرانيين لا ينظرون إلى الأميركيين بعداءٍ، بل بمودّة وانفتاح. وحتى عندما قرّرت الضيفة الأميركية الكشف عن هويتها الدينية اليهودية، بعد تردّد وخوف، لم يغير ذلك شيئاً لدى مضيفيها الإيرانيين، فلا مشكلة لدى الإيرانيين مع الدين أياً كان، كما لا مشكلة مع الإنسان، أيا كانت هويته أو جنسيته.
وإذا كان الفيلم لم يقدّم جديدا عن صورة الإيرانيين، أو صورة "فارس"، في الوعي الجمعي الأميركي، فإن رسالة الفيلم هي أن الشعب الإيراني لا يستحق الحصار الاقتصادي المفروض عليه منذ بدء الثورة وقيام نظام الجمهورية الإسلامية، فهم أناسٌ عاديون، طيّبون، منفتحون، يربّون أبناءهم على المحبة والتسامح والانفتاح، وأن كل ما يُشاع ويروّج عن العداء الإيراني للشيطان الأكبر (أميركا) لا يعدو أكثر من شعاراتٍ سياسيةٍ بغرض الاستهلاك المحلي، وهو عداء موجّه إلى المؤسسة السياسية الأميركية، وليس إلى الشعب الأميركي. (ذاتها الصورة التي نقلها الفيلم الروائي "آرجو" 2012، الذي أخرجه وقام ببطولته وشارك في إنتاجه الممثل الأميركي – اليهودي بن آفليك). ويبدو أن إدارة الرئيس السابق، أوباما، الذي جاء إلى الحكم بعد عام من إنتاج فيلم جاستين شيبيرو، التقطت الرسالة، وقامت بمقاربة جديدة تجاه إيران انتهت بتوقيع اتفاق (5+1) المتعلق بالبرنامج النووي الإيراني عام 2015. سعت إدارة أوباما إلى تحويل إيران إلى "دولة طبيعية" في المنطقة والعالم، عبر إنهاء الحصار
الاقتصادي، وفتح السوق الإيراني على الاقتصاد العالمي، ووقف برنامجها النووي، ونزع كل ذرائع تدخلاتها الإقليمية، غير أن ذلك المسعى كان محكوما بمدى زمني لم تكتمل دورته، حيث جاءت إدارة أميركية جديدة بتوجهات جديدة فأنهته.
مشكلة أميركا مع إيران ليست إيران، ولا تدخلاتها في دول عربية عديدة، والولايات المتحدة قادرةٌ على وقف تلك التدخلات لو رغبت، أو لو أن لها مصلحة قومية، أمنية أو اقتصادية، عاجلة ومهمة، عدا العراق الذي تتداخل فيه مصالح الطرفين، على نحو شديد التعقيد. وعلى الرغم من ذلك، هنالك تفاهمات بينهما على اقتسام النفوذ في هذا البلد. مشكلة أميركا هي مع حلفائها في المنطقة، خصوم إيران، وفي مقدمتهم إسرائيل ومعها السعودية، وبدرجة أقل إمارة أبوظبي. يعمل هؤلاء مع قوى الضغط النافذة في واشنطن على تحريض الإدارة الأميركية على القيام بمزيد من الضغوط والتضييق على إيران، بهدف إسقاط "الجمهورية الإسلامية"، وهو ما رفضته إدارة أوباما وقاومته.
هل ما قيل أخيرا (منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2018) عن مساع لتفاوض مباشر أو عبر وسيط بين إيران وإسرائيل، وضمن ما باتت تعرف بـ"صفقة القرن" هو المدخل الوحيد لتطبيع العلاقة بين واشنطن وطهران، وإخراج إيران من عزلتها الاقتصادية والتجارية؟ وهل تبدّل موقف الإمارات حيال إيران من العداء والتحريض المعلنين إلى الرغبة في الحوار والتفاوض، بدءا من الانسحاب من اليمن، مرورا بإرسال وفد تنسيق أمني إلى طهران، يأتي بإيعاز من تل أبيب أو واشنطن، وضمن هذه الصفقة؟ إذا كانت الحرب بين أميركا وإيران مستحيلة، فإن السلام ممكن، والأميركيون والإيرانيون يفهمون بعضهم، ويعرفون ما يريدون، والإسرائيليون أيضا، وأي صفقة مقبلة ستحفظ مصالح هذه الأطراف الثلاثة. لكن ماذا عن مصالح العرب، سيما السعودية والإمارات، وكيف ستبدو علاقتهما بإيران بعد عقود من العداء والتحريض؟
وإذا كانت الصورة السياسية لإيران قد تغيرت بعد ثورة الخميني عام 1979، وانتقلت من خانة الصديق إلى خانة العدو، فإن هذا التغير لم يؤثر كثيرا على الوعي الشعبي الأميركي، وإنما على الوعي النخبوي السياسي، أو على مجتمع العاصمة واشنطن وجماعات الضغط المختلفة التي تخدم أطرافا وجهات محدّدة، كإسرائيل وشركات السلاح، وحتى لدى النخب السياسية الأميركية، فإن صورة إيران تبقى انتقائية ومصطنعة وقابلة للتغير، على خلاف صورة العالم العربي الراسخة.
سافرت، في صيف 2007، منتجة الأفلام الوثائقية، الأميركية جاستين شيبيرو، مع ابنها البالغ ست سنوات، إلى إيران، وكان هدف رحلتها، وعلى خلفيته أنتجت فيلما وثائقيا شائقا، ويستحق المشاهدة، عنوانه "صيفنا في طهران"، رغبتها في أن تلتقي بأمهات إيرانيات، أو أن تلتقي أمهات أميركيات وأمهات إيرانيات قبل أن يلتقي أبناؤهن على جبهات القتال. قضت شيبيرو وابنها أشهر صيف ذلك العام ضيفةً على ثلاث عائلات إيرانية، من بينها عائلة متدينة، يعمل الأب في الحرس الثوري، وعادت بنتيجة (أظهرتها في الفيلم) أن الإيرانيين لا ينظرون إلى الأميركيين بعداءٍ، بل بمودّة وانفتاح. وحتى عندما قرّرت الضيفة الأميركية الكشف عن هويتها الدينية اليهودية، بعد تردّد وخوف، لم يغير ذلك شيئاً لدى مضيفيها الإيرانيين، فلا مشكلة لدى الإيرانيين مع الدين أياً كان، كما لا مشكلة مع الإنسان، أيا كانت هويته أو جنسيته.
وإذا كان الفيلم لم يقدّم جديدا عن صورة الإيرانيين، أو صورة "فارس"، في الوعي الجمعي الأميركي، فإن رسالة الفيلم هي أن الشعب الإيراني لا يستحق الحصار الاقتصادي المفروض عليه منذ بدء الثورة وقيام نظام الجمهورية الإسلامية، فهم أناسٌ عاديون، طيّبون، منفتحون، يربّون أبناءهم على المحبة والتسامح والانفتاح، وأن كل ما يُشاع ويروّج عن العداء الإيراني للشيطان الأكبر (أميركا) لا يعدو أكثر من شعاراتٍ سياسيةٍ بغرض الاستهلاك المحلي، وهو عداء موجّه إلى المؤسسة السياسية الأميركية، وليس إلى الشعب الأميركي. (ذاتها الصورة التي نقلها الفيلم الروائي "آرجو" 2012، الذي أخرجه وقام ببطولته وشارك في إنتاجه الممثل الأميركي – اليهودي بن آفليك). ويبدو أن إدارة الرئيس السابق، أوباما، الذي جاء إلى الحكم بعد عام من إنتاج فيلم جاستين شيبيرو، التقطت الرسالة، وقامت بمقاربة جديدة تجاه إيران انتهت بتوقيع اتفاق (5+1) المتعلق بالبرنامج النووي الإيراني عام 2015. سعت إدارة أوباما إلى تحويل إيران إلى "دولة طبيعية" في المنطقة والعالم، عبر إنهاء الحصار
مشكلة أميركا مع إيران ليست إيران، ولا تدخلاتها في دول عربية عديدة، والولايات المتحدة قادرةٌ على وقف تلك التدخلات لو رغبت، أو لو أن لها مصلحة قومية، أمنية أو اقتصادية، عاجلة ومهمة، عدا العراق الذي تتداخل فيه مصالح الطرفين، على نحو شديد التعقيد. وعلى الرغم من ذلك، هنالك تفاهمات بينهما على اقتسام النفوذ في هذا البلد. مشكلة أميركا هي مع حلفائها في المنطقة، خصوم إيران، وفي مقدمتهم إسرائيل ومعها السعودية، وبدرجة أقل إمارة أبوظبي. يعمل هؤلاء مع قوى الضغط النافذة في واشنطن على تحريض الإدارة الأميركية على القيام بمزيد من الضغوط والتضييق على إيران، بهدف إسقاط "الجمهورية الإسلامية"، وهو ما رفضته إدارة أوباما وقاومته.
هل ما قيل أخيرا (منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2018) عن مساع لتفاوض مباشر أو عبر وسيط بين إيران وإسرائيل، وضمن ما باتت تعرف بـ"صفقة القرن" هو المدخل الوحيد لتطبيع العلاقة بين واشنطن وطهران، وإخراج إيران من عزلتها الاقتصادية والتجارية؟ وهل تبدّل موقف الإمارات حيال إيران من العداء والتحريض المعلنين إلى الرغبة في الحوار والتفاوض، بدءا من الانسحاب من اليمن، مرورا بإرسال وفد تنسيق أمني إلى طهران، يأتي بإيعاز من تل أبيب أو واشنطن، وضمن هذه الصفقة؟ إذا كانت الحرب بين أميركا وإيران مستحيلة، فإن السلام ممكن، والأميركيون والإيرانيون يفهمون بعضهم، ويعرفون ما يريدون، والإسرائيليون أيضا، وأي صفقة مقبلة ستحفظ مصالح هذه الأطراف الثلاثة. لكن ماذا عن مصالح العرب، سيما السعودية والإمارات، وكيف ستبدو علاقتهما بإيران بعد عقود من العداء والتحريض؟
دلالات
مقالات أخرى
01 سبتمبر 2019
13 اغسطس 2019
05 ديسمبر 2018