أمم متحدة لعالم مفتَّت: صندوق الأحقاد الأميركية ينفجر

25 سبتمبر 2018
ترامب في الأمم المتحدة العام الماضي (درو أنجيرير/Getty)
+ الخط -
لم يشأ أنطونيو غوتيريس، أن يَحيد، عن خُطى أسلافه. الرقمُ التاسعُ على لائحة الناطقين بلسان حال "الأمم المتحدة"، عبّر هو الآخر، عشية افتتاح الدورة الـ73 للجمعية العامة، عن "قلقه"، وهذه المرة، على "عالمٍ مُفتّت"، تحوّل إلى "قطعٍ صغيرةٍ"، محذراً الولايات المتحدة من خسارة قدرتها على التأثير في أحداثه. ويأتي تحذير غوتيريس، خلال مقابلة أجراها معه الصحافي أوري فريدمان، في مجلة "أتلانتك" قبل أيام، في وقت تواجه فيه الأمم المتحدة، هجوماً أميركياً شرساً، ليس الأول من نوعه، ولكنه الأعنف، ومعه تشددٌ أميركيٌّ صريحٌ، وصل إلى حدّ القطيعة النهائية، حيال عددٍ كبيرٍ من المؤسسات والمنظمات التي تحمل الطابع الدولي، افتتحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في عهده بالانسحاب من اتفاق المناخ الذي التزم به سلفه باراك أوباما، تلته سلسلة انسحابات وقطع تمويل، وصولاً إلى الخطاب الأول الأشمل لجون بولتون، مستشار الأمن القومي، والذي خصّصه لتوعُّد المحكمة الجنائية الدولية بالعقاب الشديد.

لا شكّ في أن "قلق" الأمناء العامين للأمم المتحدة، قد حطّم الأرقام القياسية. ولا شكّ أيضاً، أن العالم لم يغافل الجميع حين بدأ يتحول إلى التعددية القطبية. يستشهد غوتيريس بأحداث سورية، ليتحدث عن فوضى الأدوار الخارجية التي تعيق الحلّ، وببعض "النوستالجيا"، حسب تعبير فريدمان، عن الحرب الباردة، حين كان القطبان الكبيران، ورغم حروب الوكالة، "يعيدان الأمور إلى نصابها"، عندما تتهدد الكوكب شراراتٌ خطيرة، ليختم بـ"مؤتمر الصين وأفريقيا"، العائد منه لتوه، منذراً، ولو بطريقة مبطنة، رئيساً أميركياً لم يذكر اسمه، من مواصلة رفع شعار الانكفاء إلى الداخل. وأخيراً، يقول ما يساوره: "سأفعل كلَّ ما في وسعي، كي لا تنسحب الولايات المتحدة من الأمم المتحدة".

ربما هذه الكلمات، هي لبُّ الحديث، على أعتاب دورةٍ جديدة لأكبر "فوروم" عالمي تتجه الأنظار إليه كلّ شهر سبتمبر/أيلول من كل عام. فالأمم المتحدة، والولايات المتحدة، اللتان تلتقيان على ضفاف النهر الشرقي في مدينة نيويورك، تشبهان كثيراً، في الظاهر، الانكفاء الذي يزال مربوطاً بخيطٍ هشٍّ مع العولمة، تماماً كالموعد الذي سيضربه دونالد ترامب مع لعبة الغولف التي يعشقها يوم السبت، قبل التوجه بداية الأسبوع المقبل إلى ما يمقته: "نادٍ يتجمع فيه الناس، للأسف، للثرثرة فقط".


ولبُّ الحديث هنا، قد لا يخرجُ باستنتاجات حتمية، لسؤالٍ يزداد إلحاحاً حول العلاقة التي بدأت تُفرِط في الالتباس، بين المنظمة الدولية، والولايات المتحدة التي تستضيفها، والتي تعدّ الممول الأكبر لها. فهذه العلاقة، لطالما اتسمت بالتناقض، أقلّه منذ سبعينيات القرن الماضي، لكن كلام غوتيريس، بحسب الخبير في "مجلس العلاقات الدولية"، ستيوارت باتريك، يأتي في وقت لم تعد الولايات المتحدة راغبةً فيه بلعب دور المؤطّر للنظام العالمي.

لكن هل بالإمكان أن تُلخّص نظرية ستيوارت، ومعها كل النظريات الأخرى حول الانكفاء الأميركي، وتخلخل النظام العالمي في عهد ترامب، وتصدع العولمة بالمفهوم المتعارف عليه، والتحول نحو "الديمقراطيات الديكتاتورية"، أسباب خروج الصراع بين الأمم المتحدة والولايات المتحدة، إلى مثل هذه العلنية؟ وهل وضعُ غوتيريس الأمر في خانة دعوة واشنطن لـ"العودة إلى رشدها"، يحمّل دونالد ترامب أكثر مما يحتمل؟

عناوين كثيرة، قد تحمل إلى التكهن، أنه في السياسة، كما في الملفات الأخرى، لا تزال الولايات المتحدة تستغل المنظمة الدولية، أو تتربص بها، لتنفيذ أجندتها الداخلية والخارجية، وهي أجندة يُعتبر ترامب أداتها التنفيذية الأكثر مطواعية، بعيداً عن نظرية "ترامب في مواجهة الدولة العميقة" وما شابه، حتى ولو كان السؤال الآخر هو ما إذا كان السلوك الأميركي قد بدأ يضع أميركا في عزلة، أي كدولةٍ في مواجهة العالم.


يحصل ذلك في وقت أفلحت فيه الأمم المتحدة، وللإنصاف، مرّات عدة، منذ مجيء ترامب إلى السلطة تحديداً، ولو أن لها سوابق قديمة، في الخروج عن طاعة "ولي الأمر"، ورفع الصوت ضد بعض القرارات والممارسات الأميركية، منها التئام الجمعية العامة الطارئ لرفض القرار الأميركي حول القدس المحتلة "عاصمة لإسرائيل"، والتنديد بقمع المهاجرين وبناء الجدران، والمطالبة بتحقيق في العنف العنصري على خلفية أحداث تشارلوتسفيل في ولاية فرجينيا الأميركية، بالإضافة إلى انتقادات وجهها مسؤولون أمميون (مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان المغادر الأمير زيد بن رعد الحسين مثالاً)، انحصرت جميعها في كونها موجهة إلى عهد ترامب، الذي حمل وزر السلبيات الأميركية كلّها.

اتجهت الأنظار مع مجيء ترامب إلى البيت الأبيض، إلى حلف شمال الأطلسي، كأول المُستهدَفين في العهد الأميركي الجديد. وعلى الرغم من أن أوروبا أخذت قسطها من الصفعات "الترامبية"، إلا أن مربض الفرس كان في أمكنة أخرى، وعلى رأسها الأمم المتحدة. ففي تقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست"، في 28 ديسمبر/ كانون الأول 2016، أي بعد أقلّ من شهرين فقط على تسلم ترامب كرسي الرئاسة رسمياً، وتحت عنوان "داخل الحرب المقبلة بين الولايات المتحدة والأمم المتحدة"، يرصد جوش روغين، تخطيط الكونغرس الأميركي لتصعيد الخلاف حول قرار مجلس الأمن الدولي المتعلق بإدانة الاستيطان الإسرائيلي، والذي امتنعت أميركا – باراك أوباما، وللمرة الأولى، عن استخدام الفيتو ضده، مُرّشِحاً أن يذهب الرئيس الأميركي الجديد لملاقاة الكونغرس في هذا الإطار.

التقرير، لم ينل قسطه من الاهتمام، وتحدث عن تهديد السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام بقيادة جهدٍ داخل الكونغرس، لحجب التمويل الأميركي الذي يشكل 22 في المائة من ميزانية الأمم المتحدة التشغيلية السنوية، فضلاً عن توافق ديمقراطي – جمهوري على "انحياز قرار مجلس الأمن"، وضرورة "معاقبته". 

وقال غراهام لمعدّ التقرير إن الأمم المتحدة "تجعل من الصعب المضي في الأعمال معها كما المعتاد، فكل جمهوري يشعر اليوم أنه يخون إسرائيل، وليس في أيدينا إلا قوة المحفظة (أي حجب المال)". وبحسب مساعدَين في مجلس الشيوخ، تحدثا للصحيفة، تتم دراسة خيارات عدة، منها خيارات صغيرة، كمنع أي تمويل قد يذهب لتطبيق القرار المناهض للاستيطان، أو تمرير قانون لحماية المستوطنين الحاملين للجنسية الأميركية، ومنها خيارات أضخم، كالانسحاب من منظمة يونيسكو، ووقف المساعدات للسلطة الفلسطينية، أو طرد ممثلين لمنظمة التحرير من واشنطن، وهي قرارات نُفذت لاحقاً، علماً أن المروجين لها تحدثوا عن ضرورة عدم انتظار تنصيب ترامب للبدء بالإعداد لها.


هكذا، يصف التقرير قرار مجلس الأمن بـ"صندوق باندورا"، الذي فُتح لإطلاق كل الشرور الكامنة ضد المنظمة الدولية، إلى حدّ السماح للمطالبين بهدمها، بـ"التنفيس عن غضبهم"، مستعيداً مواجهات سابقة، لعل أهمها محاولة السيناتور الجمهوري جيسي هلمز (رئيس لجنة العلاقات الدولية 1995 -2001) منع التمويل عن الأمم المتحدة، مطالباً إياها بإجراء إصلاحات، إلى أن تمّ التوصل إلى حلٍّ وسط في عام 1997 مع السيناتور جو بايدن، لتمرير قانون صادق عليه بيل كلينتون، حول إصلاح تمويل المنظمة.

مثلان آخران، ولو مختلفان، يكفيان لرصد أجندة أميركية حازمة، تخدم المصالح الداخلية، والانتخابية، خصوصاً للحزب الجمهوري، مع مجيء ترامب إلى السلطة. ففي يناير/كانون الثاني 2017، وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ما يمكن وصفه بأول أمرٍ تنفيذي له، وهو تشديد "سياسة مكسيكو سيتي"، الذي يعيد ترسيخ وتوسيع "سياسة مكسيكو سيتي"، أو "قاعدة كمّ الأفواه"، بحسب منتقديها، التي اعتمدتها الإدارات الأميركية الجمهورية منذ عام 1984 (رونالد ريغان)، والتي تعيد الإدارات الديمقراطية إلغاءها، كلما عادت إلى الحكم منذ ذلك الحين.

وتطلب هذه السياسة، من المنظمات غير الحكومية الأجنبية التي تتلقى مساعدات صحية عالمية من الولايات المتحدة، أن تؤكد أنها لا تستخدم التمويل غير الأميركي في كل ما يتعلق بدعم الإجهاض. والخطير في توسيع ترامب لأمر تنفيذ السياسة أنه بات يطبق على نحو 8.8 مليارات دولار، بما يشمل دعم تمويل تنظيم الأسرة والصحة الإنجابية وصحة الأم والطفل والتغذية ومرض الإيدز، وعلاجات السل والملاريا، وحتى برامج المياه، بما يعني أنه من المرجح أن تقوض القاعدة التقدم الصحي المحرز عالمياً، لأن الولايات المتحدة هي المانح الأكبر في هذا المجال.

في الوقت ذاته، بدا الخلاف بين الولايات المتحدة والأمم المتحدة حول "الرضاعة الطبيعية"، والذي ضجّت به الصحف الأميركية أخيراً، كآخر العنقود في سلسلة الضغوط التي تمارسها واشنطن ضد المنظمة الدولية، حتى قيل حينها إن العلاقة على وشك الانفجار، حين هددت الولايات المتحدة الإكوادور بحرمانها من المساعدات العسكرية وتطبيق إجراءات تجارية بحقها، إذا تمّ تمرير القرار الذي اقترحته، لتشجيع الرضاعة الطبيعية، وقد تراجعت دول كثيرة عن تمرير القرار، الذي لا يحمل سوى جملة وحيدة، في منظمة الصحة العالمية، إلى أن تدخلت روسيا ومررته.

الحدثان، قد يمران مرور الكرام، أمام سيل الضغوط السياسية اليومية التي تمارسها الولايات المتحدة داخل أروقة المقرات الأممية في العالم، لكن مغزاهما يقف عند القوة اللامتناهية للوبيات الأميركية، ونشاطها المتواصل على الصعيد الدولي. فمحاربة الإجهاض، مطلب الإنجيليين الذين وجدوا في ترامب ضالتهم، أما عداوة الرضاعة الطبيعية، فتكمن في ضغوط لوبيات شركات الحليب وأطعمة حديثي الولادة المصنعة، النافذة جداً في واشنطن، والتي رصدت تراجعاً في أرباحها خلال الأعوام الأخيرة في الدول الغنية. وقال دبلوماسيون إن الخلاف حول الرضاعة الطبيعية دفع بمندوبين أميركيين إلى التلويح بقطع المساعدة المالية المقدمة لمنظمة الصحة العالمية (نيويورك تايمز كشفت عن تقرير أيضاً حول مفاوضات نافتا تمارس فيه واشنطن ضغوطاً لمنع كندا والمكسيك من وضع تحذيرات على الطعام الجاهز ومشروبات سكرية).

من فلسطين المحتلة، إلى اليمن، إلى سورية، إلى أزمة الروهينغا، والأمن الغذائي والمائي العالمي، إلى التلوث والهجمات السيبيرية واتفاقية المناخ التي انسحبت منها أميركا ــ ترامب، تبدو الأمم المتحدة، هيكلاً عاجزاً عن تحقيق الحدّ الأدنى من شعاراته، لكنه، حتى بنظر أكثر المنظرين عداوة داخل الولايات المتحدة للمنظمة الدولية، يبقى ضرورياً لأسباب مالية وسياسية، وللأمن القومي الأميركي.

بين هذا وذاك، افتتحت وزيرة خارجية الإكوادور، ماريا فرناندا اسبينوزا غارسيز، دورة جديدة للجمعية العامة للأمم المتحدة تحت شعار: "جعل الأمم المتحدة بمتناول الجميع: قيادة عالمية، وتقاسم مسؤوليات، لمجتمعات متساوية ومستدامة ومستقرة". تحت الشمس، الواقع يقول عكس ذلك.

*******************************
هذا العام، يتوقع أن يطغى ما يقوله دونالد ترامب على كلمات بقية زعماء الدول، مع تسجيل غياب الحضور لفلاديمير بوتين وشي جين بينغ ونارندرا مودي وعمران خان، وغياب كلمةٍ لجاستن ترودو، وبالتوازي مع رئاسة الولايات المتحدة في شهر سبتمبر/ أيلول لمجلس الأمن، تبدو الأجندة الأميركية حاضرة بامتياز، بعدما "بشرت" المندوبة نيكي هايلي بأن دورة المجلس خلال انعقاد الجمعية العامة "ستكون لمعالجة انتهاكات إيران للقانون الدولي"، لأن طهران "أعطيت كارتاً أبيض لفترة طويلة، وحان الوقت لها أن تقف وتشرح لنا أفعالها". الجمعية العامة بدورها، لن تخلو من "نقاش إيران"، لتلتحق بها كلّ مصائب وأزمات وملفات العالم المحتدمة، وصولاً إلى ملفي الهجرة واللجوء، وتغير المناخ، العزيزين على قلب أنطونيو غوتيريس.