ضعف الاستعداد للخريف بأمطاره الغزيرة وعواصفه وسيوله، يتسبب بكوارث سنوية في السودان، بعضها تنتج عنه خسائر بشرية، فيما السلطات عاجزة عن الحلّ
يتجدد الموت الموسمي في السودان نتيجة الأمطار الغزيرة وما يرافقها من سيول وفيضانات، وتتجدد معه الاتهامات للحكومة المركزية وحكومات الولايات بالتقصير في إنقاذ الضحايا وإيواء آلاف المشردين من منازلهم، والعجز عن مدّ يد العون للمتضررين وتعويضهم.
نهاية الأسبوع الماضي، هطلت أمطار بكميات غير مسبوقة في منطقة كبكابية بولاية شمال دارفور، غربي السودان، فدمرت آلاف المنازل وعدداً من المرافق معها، لكن بالنسبة للمواطن عباس أبكر عبد الشافع، فقد وقعت عليه الفاجعة الكبرى، حينما أغرقت السيول زوجته وأطفاله الثلاثة، ليشكل الحادث صدمة لكثيرين. يقول قريبه، ياسين حسن محمد، لـ"العربي الجديد" إنّ الأمطار التي هطلت على كبكابية لم تشهد مثلها منذ 60 عاماً إذ حاصرتها المياه من السماء والأرض عبر السيول، فدمرت بالكامل 6 أحياء، وقريتين، و3 مخيمات للنازحين الفارين من الحرب. يضيف أنّ هناك عشرات القتلى والمفقودين، بالإضافة إلى تدمير نحو 13 ألف منزل منها 5 آلاف دمرت بالكامل، ونفوق 7 آلاف من الحيوانات، وتدمير المحاصيل التي يعتمد عليها الأهالي في غذائهم، عدا عن تدمير سوق المدينة. يوضح محمد، الذي ينشط أيضاً في مجال حقوق الإنسان، أنّ المواطنين الذين نجوا افتقدوا إلى المأوى والغذاء وحتى الملبس، موجهاً انتقادات حادة للسلطات المركزية وحكومة ولاية شمال دارفور التي لم تهتم بالوضع الإنساني، ولم يزر مسؤولوها المنطقة حتى، ناهيك بعدم تقديم المساعدات الملحة. ويشير إلى أنّ الوضع يحتاج إلى تدخل عاجل من الحكومة ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية لتوفير الخيام والغذاء والملبس والدواء، خصوصاً مع تدهور البيئة الصحية وانتشار الذباب والبعوض.
يروي المواطن عبد الله عثمان من قرية أم حجارة، وهي من القرى التي دمرت بالكامل، لـ"العربي الجديد" المأساة التي وقعت على القرية، وأدت إلى تدمير 110 منازل لم يخرج منها أهلها إلا بملابسهم، ولم تنجُ مواشيهم التي جرفتها السيول كلّها، مؤكداً أنّ كل تفكير انصبّ السبت الماضي على إنقاذ أرواحهم من الطوفان، لافتاً إلى أنّ إعادة إعمار القرية لن تتمّ إلا إذا أقدمت الحكومة على تعويضهم، وقبل ذلك توفير المأوى والغذاء لهم. ويشير إلى أنّ الأطفال هم الأكثر تضرراً، داعياً المنظمات الخيرية إلى مدّ يد العون إليهم بأسرع ما يمكن.
يؤكد ذلك، نصر الدين قناوي، القيادي في تحالف الحرية والتغيير في المنطقة، الذي يوضح لـ"العربي الجديد" أنّ المتضررين يحتاجون إلى سكن مؤقت ومراحيض صحية عاجلة بعد تضرر أكثر من 594 مرحاضاً وتهدّم آبار مياه الشرب. وينبه قناوي إلى أنّ هناك 24 شخصاً فقدوا وانتهت الآمال بالعثور عليهم أحياء.
ولم تكن الأضرار حكراً على ولاية شمال دارفور وحدها، بل امتدت لتشمل غالبية الولايات السودانية، ومن بينها الولاية الشمالية، فقد أدت الأمطار والسيول إلى وفاة شخصين في كلّ من مروي وحلفا، وتسببت في تدمير 1875 منزلاً، طبقاً لإحصاءات رسمية، كما تأثرت بعض المرافق والمؤسسات التعليمية ودور العبادة والمزارع والأسواق، بالإضافة إلى انجراف الطرقات.
يقول محجوب عثمان من منطقة الزومة لـ"العربي الجديد" إنّ الكارثة كبيرة جداً في الولاية الشمالية وقرى كثيرة مهددة بالغرق، مطالباً في حديث إلى "العربي الجديد" بالتحقيق في فتح بوابات سد مروي، الذي، بحسب تقديره، ساعد في تلك الأضرار وأدى إلى غرق العديد من القرى، منبهاً إلى أنّ الضرر الأكبر يتمثل في فقدان المحاصيل من تمور وخضروات وغيرها، عدا عن الآثار البيئية التي تحتاج إلى خطة سريعة لمعالجتها.
أما في ولاية الجزيرة، وسط السودان، فقد لقي 6 أشخاص حتفهم بمدينة المناقل، إثر عاصفة عنيفة ضربت المدينة بالتزامن مع بدء فصل الخريف، فيما امتدت الآثار في المنطقة إلى الرقع الزراعية والمرافق الخدمية والمدارس خصوصاً في وحدات الهدى والكريمت. وفي ولاية الخرطوم، تأثرت بشكل أوسع، مناطق في شرق النيل، مثل مرابيع الشريف والعيلفون وأبو قرون والنزيلة والغابة والعسيلات وأم ضوابان حيث دمرت مئات المنازل، واضطرت الأسر للعيش في العراء.
وتجتهد منظمات مجتمع مدني في المساهمة في تقليل آثار الكارثة، والعمل جنباً إلى جنب مع الحكومة في مساعدة المتضررين، ومن أشهر تلك المنظمات، حملة "نفير" التي برزت خلال السنوات الماضية كداعم قوي أثناء الأمطار والسيول. يقول غازي الريح، أحد الناشطين في الحملة إنّهم فرغوا من جمع كلّ المعلومات ميدانياً وتحليلها وتحديد الاحتياجات، ويستعدون الآن لفتح باب التبرعات وتوفير الاحتياجات ثم توزيعها على المتضررين في الأيام المقبلة. يوضح لـ"العربي الجديد" أنّ التركيز في المرحلة المقبلة على توفير مواد الإيواء والغذاء والدواء، مبيناً أنّ الحكومة وفرت لهم مقراً ثابتاً بحي الرياض بالخرطوم ومدتهم بالغازولين، لكنّه يتهم وزيرة العمل والرعاية الاجتماعية، لينا الشيخ، بالامتناع عن تقديم أيّ تسهيلات للحملة التي ذكر أنّها توصلت لشراكات مع شركات في القطاع الخاص. ويبدي الريح خشيته من تأثير جائحة كورونا على جهود درء آثارالأمطار والفيضانات والسيول، خصوصاً أنّ شركات كثيرة أرهقتها التبرعات لصالح جهود مكافحة كورونا، وربما لن تكون مستعدة لتقديم المزيد لا سيما في ظلّ الأزمات الاقتصادية والمالية التي فرضها فيروس كورونا في جميع بلدان العالم.
ويؤكد الريح ثقته في المنظمات غير الحكومية وقدرتها على احتواء الأضرار متى ما وجدت دعماً من الحكومة ومن السلطات المحلية ودخلت في شراكة كذلك مع منظمات دولية عاملة في المجال الإنساني. وينفي بشدة الاتهامات لمنظمات المجتمع المدني بتركيز جهودها على الخرطوم وحدها، وتجاهل الأضرار في الولايات البعيدة، مؤكداً أنّ فرق حملة "نفير" وصلت إلى كلّ الولايات المتضررة، وتبحث الآن عن تنسيق جهودها مع منظمات عاملة في دارفور، بغرض شحن مواد إغاثية إليها عاجلاً، لتوزيعها على المتأثرين هناك، بالإضافة إلى وجود فرق تابعة للحملة في كلّ من النيل الأبيض والبحر الأحمر والعديد من ولايات السودان.
من جانبه، يعزو الصحافي محمد أزهري، تكرار المأساة في كلّ فصل خريف إلى عدم الاستعداد المبكر، وانشغال حكومات الولايات بالشؤون السياسية والأمنية، وغياب برامج الإنذار المبكر، عدا عن ضعف إمكانات فرق الدفاع المدني.
تجدر الإشارة إلى أنّ إحصاءات وزارة الداخلية الأخيرة أكدت وقوع 62 قتيلاً بسبب الأمطار والسيول، و24 مصاباً، بالإضافة إلى انهيار 13823 منزلاً كلياً، وانهيار 16.145 منزلاً جزئياً، وتضرر 88 مرفقاً حيوياً، و224 متجراً ومخزناً، ونفوق 683 رأساً من المواشي.
بيوت من طين وقش
يقول الصحافي محمد أزهري لـ"العربي الجديد" إنّ نسبة كبيرة من مسؤولية الأضرار التي سبّبتها الأمطار والسيول، يتحملها المواطنون أنفسهم ممن يسكنون في مواقع مجاري المياه الطبيعية، وخصوصاً في الأحياء الطرفية بالمدن الكبرى، ويعتمدون في البناء على الطين والقش، وبالتالي لا تتمكن منازلهم من الصمود منذ الأسبوع الأول للخريف.