31 مارس 2019
ألبير كامو... الفيلسوف المتهم
لا يزال الكاتب ألبير كامو 1913-1960 يثير الجدل في الأوساط الثقافية والفكرية والدراسات ما بعد الكولونيالية، ولا تزال نصوصه تحظى بالمتابعة والقراءة والنقاش بين ضفتي البحر المتوسط، فالانتماء المتوسطي الذي شكل المفارقة، والأرضية الفلسفية والأدبية جعلا الاهتمام بأعماله أوروبيا وأفريقيا بل وعالميا.
بين الرغبة في الاحتواء والتبني والمعاداة والخصومة، جعلت نصوص شخصية كامو تتقاذفها القراءات بين السلب والإيجاب والاتهام والتبرئة والأحكام الجاهزة والاعتراف، كما تناولت بعض نصوصه دراسات خارج السياقات التاريخية والزمنية، ما ترك الرجل دائما بين الاتهام والإعجاب ورسمت على نصوصه مشاهد من الضبابية.
ما إن يرد أو يذكر اسم ألبير كامو في بعض المجالس الأدبية والحلقات الثقافية حتى تعاد إلى الذهن الجملة التي قالها صاحب جائزة نوبل في ندوة صحافية في استوكهولم سنة 1957: "لو خيّرت بين العدالة وأمي، لاخترت أمي".
ويختزل مسار كامو في هذه العبارة وانطلاقا من هذه الجملة أطلقت الأحكام وأصدرت التأويلات واختزلت إنجازات الرجل الفكرية والإعلامية والأدبية عند هذه الجملة، وباتت هذه العبارة مصدر إدانة البير كامو، فأمسى المدافع عن الكولون والرجل الأبيض ومن أنصار الاحتلال الفرنسي للجزائر ومن مناصري "الأقدام السود".
بين الرغبة في الاحتواء والتبني والمعاداة والخصومة، جعلت نصوص شخصية كامو تتقاذفها القراءات بين السلب والإيجاب والاتهام والتبرئة والأحكام الجاهزة والاعتراف، كما تناولت بعض نصوصه دراسات خارج السياقات التاريخية والزمنية، ما ترك الرجل دائما بين الاتهام والإعجاب ورسمت على نصوصه مشاهد من الضبابية.
ما إن يرد أو يذكر اسم ألبير كامو في بعض المجالس الأدبية والحلقات الثقافية حتى تعاد إلى الذهن الجملة التي قالها صاحب جائزة نوبل في ندوة صحافية في استوكهولم سنة 1957: "لو خيّرت بين العدالة وأمي، لاخترت أمي".
ويختزل مسار كامو في هذه العبارة وانطلاقا من هذه الجملة أطلقت الأحكام وأصدرت التأويلات واختزلت إنجازات الرجل الفكرية والإعلامية والأدبية عند هذه الجملة، وباتت هذه العبارة مصدر إدانة البير كامو، فأمسى المدافع عن الكولون والرجل الأبيض ومن أنصار الاحتلال الفرنسي للجزائر ومن مناصري "الأقدام السود".
في سياق نفس المحاكمة، تتم قراءة رواية "الغريب"، التي حاز بفضل أبعادها الفلسفية وباقي أعماله جائزة نوبل للأدب في سنة 1957، على أنها رواية إقصائية وتهميشية وعنصرية تعبر عن تجاهل كلي للمكون الجزائري ونعته بـ"العربي" فقط ككائن مجهول ونكرة، ويرسم الجزائر مساحةً جغرافيةً جميلةً يبدع في وصف شواطئها والطبيعة والطقس من دون الالتفات والحديث عن معاناة سكانها الأصليين.
في سياق مرتبط أيضا يذهب البعض الآخر في تأويلات ساذجة وإسقاطات مشوهة عند قراءة رواية "الطاعون" التي تتحدث عن وباء الطاعون الذي تفشى في مدينة وهران وقتها. فالوباء مصدره، بحسب تصورات، هو "العربي" الذي يحاصر المدينة عبر إسقاطات كظاهرة "ترييف المدينة"، وهذا "العربي" هو الذي يغير أساليب عيش الناس داخل المدينة.
وتقام أحيانا أوجه المقارنة بين ألبير كامو وجون الموهوب عمروش وفرانز فانون في تحديد خياراتهم السياسية، يختار جون عمروش الجزائري المسيحي وفانون الوقوف بجانب الثورة والمطالبة بالاستقلال بينما يختار كامو الحياد.
مجمل هذه القراءات الشبيهة بمحاكمة لكامو، يتم فيها إخضاع نصوص ألبير كامو إلى رؤية ضيقة وزاوية محدودة وخلفيات معينة، انطلاقا من حساسيتنا الثورية الوطنية تجاه هذا الآخر يتم إسقاط جميع أعمال كامو بمعايير ضيقة في الدراسة والقراءة والتقييم ونحاكم نصوصه ومواقفه وفق تصوراتنا وخياراتنا التاريخية الدوغمائية.
في الطرف المقابل من المتوسط، لم تكن وضعية كامو أكثر قبولا وانسجاما مع الإنتلجنسيا الباريسية، فقد عانى كامو من الإقصاء والتهميش في العواصم الثقافية الفرنسية والميتروبول الباريسي، وكان محل السخرية والإشاعات والنقد من جانب التيار الوجودي بقيادة جون بول سارتر وسيمون دوبوفوار ومن التيار السياسي الشيوعي أيضا.
خلفيات هذا التصادم والعداوة تعود بالأساس إلى عدم تقبل النخبة الباريسية اقتحام كامو الوسط الثقافي بقوة وتفوقه الأدبي والفلسفي، فقد أثبت حضورا قويا كمرجعية في الفكر الفلسفي المعاصر داخل الوسط الضيق والمنغلق وتحطيمه الإستبلشمنت الفرنسي، كان كامو يوصف في تلك الأوساط بصاحب الأصول الفقيرة، ابن عامل بسيط وأم جاهلة تشتغل منظفة بيوت، متحدر من الريف والأحياء الشعبية البائسة في المستعمرة الجزائرية، المريض بالسلّ، بينما كانت تنتمي النخبة الفرنسية إلى العائلات البرجوازية والطبقات الراقية التي يتخرج أهلها من أرقى الجامعات، فالثقافة شيء يورث ولا يمكن اكتسابها.
يومية "لوموند" تشهر عبارة "لو اخترت بين العدالة وأمي لاخترت أمي"... الجدير بالذكر والملاحظة أن جريدة "لوموند" هي من كانت وراء انتشار هذه العبارة.
كان على رأس جريدة "لوموند" هوبير بوف ماري 1944 - 1969 الذي كانت له حساسيات تجاه ألبير كامو، لأن الأخير كان ينشط في صحيفة سرية مقاوماتية "المعركة" إبان الاحتلال الألماني لفرنسا.
في المقابل، كان هوبير بوف ماري قريبا من حكومة فيشي وخلال نفس الفترة تعرض كامو إلى انهيار عصبي نتيجة الحملات التشويهية والإساءة والضغط الإعلامي، مقررا التوقف عن الكتابة والإدلاء بأي تصريحات صحافية، وكان مدير "لوموند" له بالمرصاد، فكان يقول "أعرف أن كامو سيقول وقاحة يوما ما"، ولما صدرت الجملة بدأت حملة التأويلات عبر الصحف الفرنسية اليسارية والمحافظة تتناول العبارة بدعوى أن كامو يدافع عن الكولون والرجل الأبيض و"الأقدام السود" بهدف إضعافه وتقويض منزلته المعرفية والأكاديمية.
ولم يغفر التيار الشيوعي الفرنسي إقدام كامو على انتقاد الاتحاد السوفييتي والهجوم عليه، الذي ذهب إلى حد وصفه ومقارنته بالنظام النازي عبر إقامته مراكز الاعتقال والتعذيب.
كامو والجزائر
رصيد ألبير كامو تجاه القضية الجزائرية والأهالي أبعد من القراءات السطحية التي تناولت روايتي "الغريب" و"الطاعون". ففي سنة 1939، كتب ألبير كامو مقالات صحافية عن البؤس في منطقة القبائل نشرت في جريدة يسارية "الجزائر الجمهورية" والجملة التي بدأ بها المقال: ذات صباح باكر، رأيت في تيزي وزو أطفالا بألبسة ممزقة يتنافسون مع الكلاب على محتويات القمامة.
كان كامو من بين الأقلام النادرة من تناول وضعية الأهالي المأساوية في الصحف العالمية يصف فيها الظروف القاسية التي كان يعيش فيه الفرد الجزائري، لقد تقاسم مع الأهالي المعاناة والاحتقار وتبادل الإحساس بالانتماء الجزائري، ولقد كان عادلا وصادقا في وجه حملة الاضطهاد، وأعاب على الحزب الشيوعي الفرنسي تخاذله في مساندة الرجل، ما تسبب في إقصائه من الحزب نهائيا ودافع عبر مقالات صحافية عن الشيخ العقبي لما تم اتهامه بمقتل مفتي العاصمة، وكتب ست مقالات نشرت في جريدة "المعركة" عن أحدات 8 مايو/ أيار 1945 وصف فيها المجازر والمذابح التي مست الأهالي الجزائريين.
في الخاتمة، أعتقد أنه لا بد من إعادة قراءة ألبير كامو في إطاره الصحيح.