صدر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، ضمن سلسلة "ترجمان"، كتاب "الاجتماعي وعالمه الممزّق: مقالات فلسفية اجتماعية" للمفكر الألماني أكسل هونيت (1949) بترجمة الكاتب والمعماري اللبناني ياسر الصاروط (1956).
يضم الكتاب مناقشات نقدية لمقاربات مهمّة داخل النظرية السوسيولوجية الحديثة، حاول هونيت فيها تقديم نظرة عامة حول الصعوبات السوسيولوجية والفلسفية التي يواجهها اليوم منهجياً أيّ مشروع لنظرية اجتماعية نقدية.
من جهة أخرى، فإن الدراسات المجموعة في الكتاب لا تهدف إلى أكثر من مساهمة غير مباشرة، تلقي الضوء على المشكلات المتعلقة بحالة النظرية الاجتماعية النقدية، أكثر مما تبحث عن أجوبة.
يناقش الكاتب زوايا مختلفة من تجارب لوكاتش وفوكو وأدورنو وستراوس وروسو وبينامين وسارتر وآخرين، كما يضيء على مؤلفين احتلوا مكانة هامشية في الأبحاث السوسيولوجية.
يأتي الكتاب في اثني عشر فصلًا؛ الأول تحت عنوان "عالم من التمزّق: حول الراهنية الخفية لأعمال لوكاتش الأولى"، وفيه يقول هونيت إن الحجج النظرية والإجابات التي تحتويها بواكير أعمال جورج لوكاتش الفلسفية ليست ما يثير الاهتمام اليوم، إنما المسائل الموضوعية التي لفت الانتباه إليها، فقد تبنّى المقاربات المختلفة في النقاشات الفكرية لمطلع القرن، كي يتمكّن من تقدير ما تستطيع تقديمه من حلول للمسائل الوجودية التي كانت تشغله.
يقول هونيت في الفصل الثاني، "نظرية نقدية: من مركز إلى مُحيط تقليد فكري"، إنه على الرغم من الاهتمام المستمر الذي تثيره النظرية النقدية حتى اليوم، ينتشر وعي أكثر اتزاناً في ما يتعلق بإسهاماتها النظرية. فكل موجة تلَقٍّ جديدة للنظرية انتزعت من مشروعها القديم جانباً من الافتتان الذي استُقبِلت به في بدايتها، وأنزلتها إلى المرتبة الواقعية بصفتها مقاربة نظرية قابلة للامتحان؛ وجب على كل محاولة لإعادة بناء منهجية للنظرية النقدية أن تنطلق من النتائج النقدية التي طرحتها هذه العملية.
في الفصل الثالث، "فوكو وأدورنو: شكلان من نقد الحداثة"، يرى هونيت أنه كما في جدلية التنوير، وضع نقد الحداثة لدى ميشيل فوكو خبرة تعاظم السلطة والعنف في نقطة المركز؛ يرى تاريخ التحرر الإنساني في تيار عملية وحيدة هي عملية توسيع السيطرة. ويتم نزع الحجاب عن عملية الحضارة الذي صنعه الإيمان بالتقدم والتفاؤل بالتنوير، من خلال تسمية "قدر الجسد": الفعل الصامت لاستعباد الجسد الإنساني الذي رأى أدورنو وهوركهايمر فيه تاريخ أوروبا التحت أرضي، تعرّف فوكو عليه في التأديب اليومي للجسم، وفي ترويضه المُحكَم.
"كشاف تواصلي للماضي: عن العلاقة بين الأنثروبولوجيا وفلسفة التاريخ لدى فالتر بنيامين" هو عنوان الفصل الرابع من الكتاب، وفيه يناقش المؤلف أن استخدام بنيامين الذاكرة غير العشوائية لأجل استعادة طفولته الخاصة، استرشد بها منهجياً كي يحدد أسلوب كتابة تاريخية مضادّة للتاريخانية. يظهر الهدف الذي سعى بذلك إليه من الوظيفة الأخلاقية التي يجب على عمارة التاريخ أن تتنكب لها: لأن عليها أن تُولِّد صورًا من الماضي تستطيع أن تدخل في علاقة تواصلية مع خبرات الحاضر.
يرى هونيت في الفصل الخامس، "روسو بوصفه مفكّراً بنيوياً: عن أنثروبولوجيا كلود ليفي ستروس"، أنه كما أن ستروس معروف ومنتشر في أوساط الرأي العام العلمي، فإن سوء تفاهم كثير التبعات منتشر أيضاً: لكأنما كرّس هذا المفكِر أعماله في سبيل بناء علم أنثروبولوجي، يتمثّل هدفه في التحليل اليقظ لبنية الأساطير وأشكال القرابة.
أما الفصل السادس المعنون بـ "عقل مرتبط بالجسد: عن إعادة اكتشاف مرلو بونتي"، فيعود الكاتب فيه إلى مسألة تحديد علاقة الجسد بالعقل في بحوث موريس مرلو بونتي الظاهراتية، ويقول هونيت إن هذه الأفكار النظرية عن الإدراك سبّبت عواقب هائلة، نتجت عنها الملامح الأساسية لنقد الثنائية الكيانية التي أصبحت في التقاليد الديكارتية مسلّمة فلسفية.
في الفصل السابع، "إنقاذ أنطولوجي للثورة: عن النظرية الاجتماعية لكورنيليوس كاستورياديس"، يقول هونيت إن النظريات التي صاغها كاستورياديس تمثّل أحد أكثر الإنجازات إثارة للإعجاب، فعمله ولد من الدافع نفسه الذي تغذّت منه النظريات النقدية الاجتماعية، أي إنقاذ النيات العملية - السياسية لأعمال كارل ماركس، من خلال التخلي الحاسم عن مسلّماتها الأساسية.
يذهب هونيت في الفصل الثامن، "كفاح من أجل الاعتراف: عن نظرية البينيّة الذاتية لسارتر"، إلى أنه من بين الفلاسفة الذين أنجبهم قرننا، كان جان بول سارتر أكثرهم راديكالية. ظلت نظريته الفلسفية مرتبطة بخبرات معاصريه الوجودية الدنيوية. وتتشارك فلسفة سارتر مع مشاريع أخرى للتقليد الظاهراتي في ميزة تسويغ أكثر الأمور تجريدية من خلال الإحالة الدائمة إلى مجريات الحياة اليومية، إلا أنها تتميز بطابع الخبرات اليومية المُستفاد منها نظرياً، ففيها تكتسب الإنجازات الحياتية للثقافة اليومية للمدينة شرعية فلسفية.
في الفصل التاسع، "العالم الممزق للأشكال الرمزية: حول عمل بيار بورديو الثقافي – الاجتماعي"، يقول هونيت إن بورديو وجّه اهتمامه إلى عالم البنى الرمزية، وما جذب انتباهه كان المجالات التي تتمثل بالعادات الثقافية وأشكال التعبير الرمزية التي اعتادت الماركسية رفضها باعتبارها منتوجاً جانبياً لإعادة الإنتاج الاجتماعية. لكن بورديو الماركسي حاول تحليل البنية الاجتماعية التي يرتكز عليها مفهوم الصراع الطبقي بطريقة تتيح لتفحّص علمي للواقع الثقافي أن يندمج في هذا التحليل.
يرى هونيت في الفصل العاشر، "الديمومة اللانهائية لحالة الطبيعة: حول المحتوى المعرفي النظري لكتاب كانيتي ’الجماهير والسلطة‘"، أنه خلافاً لمحاولات تفسير ظاهرة تشكيل الجماهير في القرن العشرين، لا يقف الحكم المسبق السلبي للناقد في بداية تحليل إلياس كانيتي إدراك قوة جاذبية الجماهير، إنما الشعور الملتبس للمتاح. ومن يسمح لنفسه أن يسترشد بمنظور كهذا، عليه أن يتدبّر أمر الدوافع التي تؤدي إلى مشاركة الجماهير في حالة الهيجان.
في الفصل الحادي عشر، "الذات في أفق القيم المتصارعة: حول الأنثروبولوجيا الفلسفية لتشارلز تايلور"، يقول هونيت إن تايلور يشارك الروح الواعية المتشربة بالديمقراطية للفلسفة الأنكلوسكسونية التزام نمط تفكير مرتبط بالمحاجة. فبالنسبة إليه، بدهي أن يكون التطوير الواضح للحجج، القابل للفهم بذاتية بينية، هو المبدأ الرائد في بناء النظرية الفلسفية، حتى أنه صاغ كتاباته وكأنها موقف مباشر في نقاش عقلي.
أما في الفصل الأخير الذي جاء بعنوان "مجتمع دون إذلال؟ عن مشروع أفيخاي مرغليت لـ ’سياسة الكرامة‘"، فيقول هونيت إنه يُفتَرَض بمصطلح الإذلال وصف الممارسات المؤسساتية التي يرى فيها الأفراد انتهاكًا لاحترامهم الذاتي.
انطلاقًا من ذلك، استنتج مرغليت عاقبتين: الأولى، لا ينبغي اختزال مصطلح الإذلال في انتهاك حقوق الإنسان فحسب، فربما يُحقّر الشخص بغير ما تشمله حقوقه المعترَف بها عالمياً؛ وتتعلّق الثانية بالمعنى الضيّق لمصطلح الإذلال نفسه، فالمفترَض أن يكون مقصوداً بالأفعال المُذِلّة تلك الممارسات التي يمكن الأشخاص عبرها أن يروا أنفسهم منتهَكين في جانب يطلق مرغليت عليه اسم الاحترام الذاتي.