أفلام عربية في "أمستردام الـ32": الذاتي والحميميّ جوهر الوثائقيّ

27 نوفمبر 2019
"احكيلي" لماريان خوري: حوار أم وابنتها (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
لافت للانتباه ازدياد الحضور العربي في "مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية". الانفتاح على جغرافيا، مُلتهبة بأسئلة وارتباكات ومتغيّرات ومصائر غير واضحة المعالم، يُشير إلى تقديم الأفضل وثائقيا إلى مُشاهدين يملأون صالاتٍ تعرض تلك الأفلام، فيتجاوبون بأشكال مختلفة، بعضها يتمثّل بصمتٍ أقرب إلى التأمّل، ولو لدقائق قليلة بعد انتهاء العرض، وبعضها الآخر يجد في التصفيق تحية لنتاجٍ ينقل بعض خرابٍ وحقائق. والذهول، إزاء الجرح السوري تحديدا، سمة مُشاهدين، لعلّهم غير مُدركين تماما أهواله وتخبّطاته ووحشية صانعيه، فإذا بأفلام سورية تكشف شيئًا من وقائع العيش في الجحيم اليومي. 

في الدورة الـ32 (20 نوفمبر/ تشرين الثاني ـ 1 كانون الأول 2019) للمهرجان، يبدو الحضور العربي غير مرتبط فقط بـ"أهمية" الحكايات والانفعالات والتفاصيل، المختارة لتلك الأفلام والمروية بصُور وشهادات، إذْ تعاين أفلامٌ أخرى مسائل يغوص بعضها في الذاتيّ البحت، وينصرف بعضها الآخر إلى غليان اجتماعي يُفرز مصائب فردية. فإلى جانب "الكهف" للسوري فراس فياض، و"إلى سما" لمواطنته وعد الخطيب والبريطاني إدوارد واتّس (برنامج "أفضل المهرجانات)، المعنيّين بتوثيقٍ سينمائي، متفاوت الأهمية بينهما، لفصولٍ من الحرب الأسدية ـ الروسية على سورية وناسها، من خلال مشفيين سوريين، تغوص المصرية ماريان خوري في تاريخ عائليّ حميم، في "احكيلي" (2019) ـ المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة هذه، في عرضٍ عالمي أول ـ بحثا عن أجوبة لتساؤلات نفسية وروحية وذاتية، مرتبطة بعلاقتها الشخصية بأهلٍ وأقارب وابنة، من دون الخروج على عالم داخلي، تسعى إلى كشف شيء من المخبّأ فيه، أو الغامض والمعلّق، الذي يُثقِل عليها فتجتهد في فهمه.

بينما الفلسطينية لينا العبد، التي تغوص بدورها في العالم الداخلي لعائلتها أولا، لن تتمكّن من البقاء في الحميميّ والذاتيّ البحت فقط، في "إبراهيم، إلى أجل غير مُسمّى" (برنامج "أفضل المهرجانات")، لأنّ بحثها عن صورة واقعية (ملموسة، حسّية) لأبٍ غائبٍ عنها منذ ولادتها، و"المستشهد" ببلوغها 7 أعوام، يذهب بها (البحث) إلى تاريخ جماعي وصراعات حزبية وأسئلة فلسطينية، وإلى الحرب مع العدو الإسرائيلي، والأعداء الداخليين أيضا ("العربي الجديد"، 9 سبتمبر/ أيلول 2019).
أما اللبنانية ريمي عيتاني، فتختار شخصية شاب لبناني يُدعى إبراهيم، كي تبني فيلما يكشف جوانب من مصائب العيش في جغرافيا لبنانية منذورة للفقر والحروب والخراب الدائم. ففي "نَفَس" (المسابقة الرسمية للأفلام متوسّطة الطول)، تنسج عيتاني لقطاتها التوثيقية برويّة باحثٍ عن هوامش الحكاية كي تصل إلى نواتها، عبر مرافقة يوميات إبراهيم، الشاب العاطل من العمل، ابن باب التبانة في طرابلس (شمال لبنان)، المنطقة الخاضعة لبطش زعماء محليين تابعين لأجندات إقليمية، والمفروضة عليها حروب مع جبل محسن، في أعوام طويلة سابقة. الفقر والبؤس والسعي إلى خلاصٍ، مسائل تنكشف في الوثائقيّ، وترافق حياة شاب متزوّج حديثا، يواجه تحدّيات جمّة تضعه في وسَطٍ مُغلّف بتجاذبات متناقضة وحادّة. 

مع ماريان خوري، تنكشف العائلة، التي يتساءل أفراد منها عن سبب "كشف" الحميميّ أمام الملأ. القلق دافعٌ إلى تنقيبٍ في المخفيّ وعنه، لعلّ التنقيب يمنح خوري بعض راحة واطمئنان وسكينة، عبر اطّلاع وفهم (أو محاولة فهم على الأقلّ). وإذْ يبدأ "احكيلي" بحوار بينها وبين ابنتها سارة، التي تسافر إلى كوبا لدراسة السينما، فإنّ "لعبة مرايا" تُمارَس بعفوية بينهما لاحقا، إذْ تنتقل الكاميرا إلى سارة، بعد وقوف ماريان وراءها في حوارها مع ابنتها عن ماريان خوري ـ الابنة والأم والزوجة.

"الرحلة العائلية" هذه، كما تصف خوري فيلمها، تحافظ على جوانيّة عائلة وأفرادها، وعلى علاقات الأفراد بعضهم ببعض وبذواتهم، وعلى انفعالاتهم وذكرياتهم، وكيفية بوحهم بما يرونه مناسبا للبوح. تسجيلات مُصوّرة مع يوسف شاهين، خال ماريان، قديمة (غير مؤرّخة)، كما تسجيلات أخرى عن احتفالات عائلية ومناسبات دينية. أما الجديد، فذاهبٌ إلى شقيقي ماريان، ايلي وغابي (المنتج)، وإلى سارة والخالة.

إبراهيم (نَفَس) مختلف تماما. ريمي عيتاني تكتب سيرته هو، وتلتقط مساراته هو، وتؤرشف حكاياته هو؛ ومعه، تبدو كأنّها تلتقط مناخا عاما بتفاصيله القاسية، ومساراته المعطّلة، والأنماط الملتبسة لعيشه. وهذا نابعٌ من رغبة في فهم أحوال أو كشف تفاصيل، تتعلّق ببيئة جغرافية واجتماعية وسياسية غارقة في الشقاء والتمزّقات. صحيح أن "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019) اللبنانية دافعٌ إلى تبيان واقع مختلف، إنْ لم يكن متناقضا مع "تاريخ" و"روايات" متداولة عن أبناء المنطقة، الذين تُفرض عليهم حروب وفقر وإهانات، فإذا بالانتفاضة تلك تكشف رغبة في انتماء إلى وطن؛ لكن "نَفَس" يعكس غليانا سابقا على الانتفاضة، من خلال سيرة شاب محاصر بجدران عالية من البؤس والألم والمخاوف، رغم إيمانه بأن الخالق قادر على تبديد المصاعب.
المساهمون