أعرفُ نفسي حين أبدأ بتنفّسِ الأنثى، ذاكرتَها، رائحتَها، وعطرَ الكلامِ الذي يفتحُ باب فمها على مصراعيه كأطفالٍ انتهت حصّتهم الدرسية وخرجوا مع رنين الجرس يصرخون فرحًا، أعرفُ نفسي حين يصبح هوائي أنثايَ أبدأ بالدفاع عن صدري فألتهم التبغَ وأشهق الدخانَ وأكتمه في رئتيّ ليستغلّ أكبر مساحة على حساب الأنثى التي أتنفس، أكتمه وأُخرِج نفَسًا فارغًا إلّا من صورتها فأنفثُها لوحةً من دخان.
أعرفُ نفسي أنني أدافع عن حريّتي أمامَ سجنٍ على هيئة امرأة، القضبانُ الحديدية قفصٌ صدريٌ من عظامٍ رقيقةٍ، أرضُ السجنِ جسدٌ لا يُشبعُ منه، رائحة السجن هي رائحة تعفّني وأنا مستسلمٌ لجنونها -لا رائحة للسجون، الرائحة المنتشرة هناك، هي رائحة تعفّن جنون من فيه، واستسلامِهم للّاخروج- العتمُ شعرُها وعيناي ورئتاي، وطرقُ الحديد هو ارتطامُ الذاكرةِ بجدار من الواقع! الوقتُ معدومٌ في الزنزانة، معدومٌ معها، والتفكير به يعني الانتحارَ بالتأكيد، من جرّب السجن ربّما سيصاب بفوبيا الأماكن المغلقة، سيفتح كلّ ما يمكن فتحه، وسيأخذها في رحلةٍ في الهواء الطلق، سيحدّثها عن السماء وعن قدرة الألوانِ على بثّ الحياة، عن جمال الركضِ نحو الفراغ، عن كرهه كل الجدران الإسمنتيّة وكلّ النوافذ المحصّنة بحماية حديديّة، سيأكلُ عشرة وجباتٍ غير منتظماتٍ في اليوم، وسيذهب للتبوّل كلّ خمس دقائق، سيتبوّل في كلّ مكان، خلف كلّ شجرة، على أيّ جدار، ويدخّن أكثرَ ممّا ينام، وإذا أرادَ النومَ لن ينام إلا بشبابيكَ مفتوحةٍ للريح، وأضواء مشعلةٍ، وموسيقا عاليةٍ، وسيعلّق ساعاتٍ كثيرة في كلّ مكان، كلّ واحدة بتوقيت مدينة، وإن كان لا بُدّ من جدران لمكانه فسيجعل جدارًا على هيئة روزنامة ضخمة، وآخر حوضَ أسماك، وثالث تلفازًا أو مرآةً، ورابع مكتبة، وسيفرشُ الأرضَ سجّادًا أخضرَ من الذي يستعملونه في الملاعب، ستكون النافذةُ محرابه، ولن يسكنَ في طابقٍ أقلّ من الرابعِ إن اضطر.
أعرفُ نفسي، لا لغة لي إلّا ما أكتب، النطقُ ترفٌ لا أريده، كنتُ أقول ما أريد للجدارِ الذي قلّمَ أظافري، وكنتُ أصرخُ في البردِ فأتدفّأ بغضبي، وأغنّي للخيالِ فأنتشي، أعدائي الآن ما ألفتُ سابقًا، إياكِ أن تذكري الزيتون والبطاطا المسلوقة أمامي، سأعودُ وحشًا.
أعرفُ نفسي أنني أدافع عن حريّتي أمامَ سجنٍ على هيئة امرأة، القضبانُ الحديدية قفصٌ صدريٌ من عظامٍ رقيقةٍ، أرضُ السجنِ جسدٌ لا يُشبعُ منه، رائحة السجن هي رائحة تعفّني وأنا مستسلمٌ لجنونها -لا رائحة للسجون، الرائحة المنتشرة هناك، هي رائحة تعفّن جنون من فيه، واستسلامِهم للّاخروج- العتمُ شعرُها وعيناي ورئتاي، وطرقُ الحديد هو ارتطامُ الذاكرةِ بجدار من الواقع! الوقتُ معدومٌ في الزنزانة، معدومٌ معها، والتفكير به يعني الانتحارَ بالتأكيد، من جرّب السجن ربّما سيصاب بفوبيا الأماكن المغلقة، سيفتح كلّ ما يمكن فتحه، وسيأخذها في رحلةٍ في الهواء الطلق، سيحدّثها عن السماء وعن قدرة الألوانِ على بثّ الحياة، عن جمال الركضِ نحو الفراغ، عن كرهه كل الجدران الإسمنتيّة وكلّ النوافذ المحصّنة بحماية حديديّة، سيأكلُ عشرة وجباتٍ غير منتظماتٍ في اليوم، وسيذهب للتبوّل كلّ خمس دقائق، سيتبوّل في كلّ مكان، خلف كلّ شجرة، على أيّ جدار، ويدخّن أكثرَ ممّا ينام، وإذا أرادَ النومَ لن ينام إلا بشبابيكَ مفتوحةٍ للريح، وأضواء مشعلةٍ، وموسيقا عاليةٍ، وسيعلّق ساعاتٍ كثيرة في كلّ مكان، كلّ واحدة بتوقيت مدينة، وإن كان لا بُدّ من جدران لمكانه فسيجعل جدارًا على هيئة روزنامة ضخمة، وآخر حوضَ أسماك، وثالث تلفازًا أو مرآةً، ورابع مكتبة، وسيفرشُ الأرضَ سجّادًا أخضرَ من الذي يستعملونه في الملاعب، ستكون النافذةُ محرابه، ولن يسكنَ في طابقٍ أقلّ من الرابعِ إن اضطر.
أعرفُ نفسي، لا لغة لي إلّا ما أكتب، النطقُ ترفٌ لا أريده، كنتُ أقول ما أريد للجدارِ الذي قلّمَ أظافري، وكنتُ أصرخُ في البردِ فأتدفّأ بغضبي، وأغنّي للخيالِ فأنتشي، أعدائي الآن ما ألفتُ سابقًا، إياكِ أن تذكري الزيتون والبطاطا المسلوقة أمامي، سأعودُ وحشًا.
الأنثى سجني، ومهما كانَ السجنُ جميلًا سيظلّ سجنًا، السجونُ الأوروبيّة المزوّدة بتلفازٍ وإنترنت و(بيدِيه) ستظلّ سجونًا لمسجونينَ مرفّهين ولن تغيّر من طبيعتها السجون، وأنا؛ هربتُ من السجنِ مرّة، وتفارقنا بسلامٍ في أخرى، ولفظَني مرتاحًا منّي مرّات، وسأظلّ هكذا إلى أن أجد ما أريد.. الأنثى الحريّة.
(فلسطين)
(فلسطين)