قرنٌ كامل من شِعر اللغة الإسبانية، هو بمثابة "أطلس مجهول"، أمام عيوننا. قرن من الثراء والتنوّع لم نعرف منه سوى أسماءٍ كلاسيكية (مثل لوركا ونيرودا وألبرتي ومتشادو)، وصلتنا عبر لغة وسيطة.
وعليه، فقراءتنا للمشهد، لا أقول ناقصة وقديمة، بل قراءةُ كفافٍ بالضرورة. ولا أنسى، حين قدِمتُ إلى هنا، وذكرت لأصدقاء إسبان ما أعرف عن تاريخهم الشعري، كيف ابتسموا بأسى!
قراءة لكي تأخذ بعض سويّتها وحداثتها، لا مفرّ من العودة إلى الحديث عن الترجمة والمترجمين.
منذ منتصف القرن الماضي وطوال عقود تلت، ظلّ مترجمونا ينقلون إمّا عن الفرنسية (غالباً) أو الإنجليزية (أحياناً). وكان ما يهمّهم هو إبراز المضمون فقط، دون عناية بجماليات وفنيّات الشعر.
جاء صالح علماني في السبعينيات، وركّز على المدوّنة السردية، لأنّ دُور نشرنا تريد ذلك، ولأنّ ترجمة الشعر أصعب (مع أنّ علماني مترجم شعري باهر، بدليل كتابه اليتيم عن ثيسار باييخو). في الأثناء، انتظرنا فإذا ببعض الأسماء تبزغ ـ هنا وهناك ـ تعلّمت اللغة في بلدها، وترجمت عن بُعد، بالعكوف على القواميس.
سيطول الانتظار هذه المرّة، حتى تأتي الألفية الثالثة بكوكبة من المترجمين يمكن التعويل عليهم. الجيل الذي سافر وأقام في إسبانيا أو بلدان أميركا اللاتينية، للدراسة أو العمل، فترجَمَ عن شغف وقُرب ومعايشة حيّة.
بواسطة هؤلاء بدأنا نتعرّف إلى غنى المشهد. ووجدنا أنفسنا أقرب إلى الشعر الإسباني واللاتيني من بقية الشعر الأوروبي، ليس فقط لتشابُه الحال والمآل، وإنما أيضاً لأنه شعر طازج ومُفارِق ولا يني عن التجريب والغوص عميقاً حدّ الدهشة.
لكن المشكلة كانت ولا تزال قائمة: لا كُتب لمعظم هذا الجيل، نرجع إليها. فهم يكتفون بالنشر المتفرّق في الجرائد والمواقع، متحاشين الإقدام على مغامرة الطبع، لشجونٍ تتعلّق بحقوقهم، وأخرى تتعلّق بعزوف الناشرين بدعوى أو ادّعاء "الخسارة".
لذا، لم تزل مكتبتنا فقيرة ـ إلاّ في ما ندر ـ من كُتب المختارات، وأكثر فقراً من ناحية أعمال كاملة أو دفاتر بعينها لهذا الشاعر أو ذاك.
المترجمون هم رُسُلُنا إلى الجانب الآخر من ليل الشعر. وطالما ظلّوا مظلومين، سنكون كقرّاء وشعراء مثلهم وأكثر.
تلك هي الصورة بالعموم، إلا أننا متفائلون تجاه المستقبل. فلدينا الآن، بعض الصحف والمجلّات التي تفسحُ المجال للترجمة الرفيعة بأجْر، وتستقطب مِن المترجمين، مَن لا تنقصه الموهبة، فضلاً عن الذائقة والمزاج والأدوات.
صحيح أنّ هذا غير كاف، ويبدو أقرب إلى فنار وحيد يومض على طول الشاطئ المعتم، وصحيح أنها أسماء، مع غيرها، تكاد تُعدّ على الأصابع، وتكاد تعمل بطاقة الشغف وحده، دون اللحاق بخبز يومها، إلا أن ما سبَقَ أدعى إلى تقديرهم، وذكْرهم بالاسم: خالد الريسوني وغدير أبو سنينة وعبد الهادي السعدون وأحمد يماني وكاميران حاج محمود وغيرهم ممّن لا تحضرني البرهةَ أسماؤهم، ولا يتّسع لها المقال، فالمعذرة.
(شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة)
اقرأ أيضاً: بين مجازين