أسماك تبتسم للقصبة

06 فبراير 2019
إتيل عدنان/ لبنان
+ الخط -

أنا نبتةٌ بلا جذور
لا أرض تحتضنني

أنا السرّ الذي يلاحقك
وكثيراً ما تنساه
نجمةٌ في قاع المياه
خصلات ملائكةٍ هبطت من السماء
يد حبيبي تمسِّد تُربتي
تُشافيني وتردّ لي لوني

أنا نبتة بلا جذور
وحدها يده تعرفني
أنهمر في سكون
ستارةً مائيةً
روحي معلّقة بأنفاس
حبيبي وحده

أترك طعم اللامكتمل
في الحلق
عاصفةَ صمتٍ في الريح

ولن يعرف أحد
اسم وطني.


■ ■ ■


الرياح تجلد وجه الحياة
فتضع لثاماً
مغلقةً عيونها أمام كدمات الرمل

بمشقّة
تسحب خطواتها في هذه الصحراء
حيث تعبر بلا نهاية

أحياناً تصطدم بالصخور
بعظام قديمة في أحيان أُخرى
دون أن تلوح أيُّ واحة
أو يُفضي المسير إلى مَورد

وجهُها يتشقّق
وقد فقدَت معنى البكاء
وتبخّرت دموعها
مع توالي الهجير
وحده نجم الليل
يُخفّف قليلاً من غلواء
عطشها

تُواصل المسيرَ دون أن تعرف النوم
عيونها مفتوحة على الليل والنهار

الجنّة والجحيم تحت أقدامها
الحياة تُمسك بيديها القويّتَين
أحلامَنا وآمالنا
لغربلتها من وقت لآخر
فوق رؤوسنا

أحلامنا تتردّد كرذاذٍ على النافذة
نفتح لها أفواهنا
نفتح لها أذرعنا، عيوننا، أجسادنا
وجميع فجوات الروح
محاولين أن نصنع منها وطناً.


■ ■ ■


أنا الصوت
الغريب عن نفسه
العزلة حتّى في الإحساس،
دون جدوى
أبحثُ
لا عزاء لي
في أيّ حبّ

منفية عن الأشياء كلّها
وعن نفسي
لم أعد أعاند قدري
وتكفي لحظةُ إلهامٍ
لكي يتدفّق الإيمانُ من جديد
أتوهّم أن البحث عن وطنٍ
هو نفسُهُ الوطن
أفتح عينيَّ
الفرح واقف دائماً
بضع خطوات أمامي
وإذ يشتدُّ تعبي
لا أكفّ عن الحلم باصطياده

أنا الغريبة عن نفسها
والغريبة عن الآخرين
والغريبة عن الحب
معتقدي مجهولٌ
والقصيدة يقيني الوحيد

أُحب لكي أكتب
وأنسحب إلى المفردة الأخيرة
أصدّق السرابَ
وأتعلّق بخيوط الضباب

أُسْلِم جسدي
للحب وأراقبه
أفتتحُ حكايةً
وأخبّئها داخلي

ثملةً ومتألّمةً أترصّد الغياب
أصقل الاشتياق
وأضحك ملء قلبي
متوهّمة أنّ نفسي تعرفني
هي والحبّ
الذي يرافقني ممسكاً يدي
أتحدّث في الحب ولذّات الجسد
وحتّى في السعادة
أُحبّ وسع من أومِنُ
أُسْلِم جسدي
بما يكفي
لتَفَتُّح الكرزِ والزنبقِ

أنا الغريبة عن نفسها
والغريبة عن الآخرين
والغريبة عن الحب
لا أحد يقرع بابي
وإذا حدث
فإني لا أفتحُ

كلُّ شيءٍ عنّي غريبٌ
سواها
القصيدةُ


■ ■ ■


يغفو الصيّاد على الصخرة
يغفو دون أن يفكّر في شيء
سوى في السمك المنتظَر
طيلة الصباح، منذ الفجر
بقصبة تنحني على الموج
محاورةً عابرين تحت الماء
يترقبون قُبلةَ الحب القاتلة
قبضة الصياد واثقة
تمتلك دقّة العارفِ بنومة النجمات المدّثرة
بالسماء التي لن تتغيّر
لقد احترف الصيد منذ أمد طويل
ذات مساء ألْقَته أُمّه في قارب
سرعان ما ابتلعته الأمواج
رفقة والده الصيّاد الأول
يتذكّر عينيه
تتطلّعان إلى الأفق
يتذكّر أيضاً أغنية الأب وشبكةً
تتلألأ في الشمس
فتحت له أبوابَ الفصول
وطقوس البحر
تحت سماء رمادية
علّمته أسرار الطحالب الملقاة على الرمال
تلك التي تسافر كزمرّد يزهد فيه الصيادون
فيما يظل المرجان في القيعان

وجه البحر مزبد
مثل غطاء من الثلوج
الصياد ليس وحيداً لأنه لا يعرف العالم
أبوه لم يعلّمه
سوى صِدق البحر
وشفافية النجوم
ونداوة الرمال
والأسماك التي تبتسم للقصبة
أو ترتمي في الشِّباك
أو موجات المغيب الملتهبة
أبوه أبداً لم يعلّمه
أكاذيب الرجال.


■ ■ ■


مُرابو الحياة
ابتعِدوا عن هذا الطريق
إنه لي
بيديَّ قلّبتُ
حجارته
وأزحتُ شظايا الزجاج
والأشواك الحاقدة

في حلمي
صقلتُ منعرجاته
وعلى وديانه وأدغاله
كان نومي ينزف

أخمدتُ نيران النهار
بغلالةٍ منّي
وغطّيت صقيع الليل
بجسدي

فتحتُ هذا الطريق
قبل وصولكم
ذرعتُه دون كوكب
أو نجمٍ في السماء

ضجيجُ أقدامكم
يخنق أنفاس العصفور
يُلطّخ بالدم
تنويمةَ الطفل.

أنتم يا تجّار الموت
عند كل منعطف

مُرابو الحياة
ابتعدوا عن هذا الطريق
فهو طريقُ الكادح
وحائكة الزَّرابي
وطريق رجلٍ ينقع الجلودَ في الأصباغ
كلّ صباح
تاركاً فيها رئتيه.

قبل مباشرة القتل
على الأقل
انزعوا عن أجسادكم
كدح الفقراء.


■ ■ ■


عيناي لا تنتسبان سوى للسماء
لأفقٍ لا يُطالُ
للزمن الذي يحلّ فيه عَرَقُ الحبّ
مكان صقيع الأجساد
رجال لم يعودوا يخافون نسيانهم
لأسباب حروبهم
عيناي أفرغت دموعها على قمّة الجبل
المزروع بالجثث
في الأزقة التي تتدفّق بالدم
مع هبوب النسيم الذي ينقل أصوات المدافع
أُذني تستسلم للصمم
لعالم موازٍ
لأمكنة تبتلع الأصداء
وللغة الأولى
أُذني التي أرهقتها صرخات النساء وهن يُرْجَمن
وأتلفها وقع الحجارة على أجسادهن الجميلة
وصمت فتياتٍ يُشوّّهنَ
باسم من لا يمتلك سوى البشاعة اسماً.


* شاعرة وروائية مغربية تقيم في باريس

** ترجمة عن الفرنسية ميشرافي عبد الودود

المساهمون