أسعار العملات والاستهداف

05 سبتمبر 2018
هبوط في سعر صرف الليرة التركية (العربي الجديد)
+ الخط -
من اللافت للنظر في الوقت الراهن أن عملاتٍ ليست قليلة تعاني الأمرّين من تقلبات سعر صرفها حيال الدولار، وتقاسي من أن التقلبات تسير كاتجاهٍ عام نحو الأسفل، أو الخسارة أمام الدولار.

ومن الأمثلة الحاضرة الليرة التركية، الريال الإيراني، البيزو الأرجنتيني، الريال البرازيلي، والعملة الفنزويلية التي تغير اسمها، اعتباراً من 18 أغسطس/آب الماضي من البوليفار إلى بوليفار سوبيراتو، بعد حذف خمسة أصفار من الرقم الظاهر على الأوراق النقدية، وهنالك أمثلةٌ كثيرة أخرى، لكنها ليست موضوع اهتمام هذا المقال.

وبالنسبة إلى الليرة التركية، بدأ الانخفاض في سعرها قبل حوالي شهرين، حين هدّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفرض عقوبات اقتصادية  على تركيا، إن لم تطلق سراح القس الأميركي، أندرو برونسون، والمحتجز في بيته بعد نقله من السجن، والمتهم بالتجسّس على تركيا.

ولما رفضت تركيا الانصياع، فرضت عليها عقوباتٍ لم تكن رادعةً لإحداث هزّة. ولكن الشركات المالية الكبرى الأميركية بدأت في بيع ما لديها في محافظها المالية من سنداتٍ بالليرة التركية، وقد أحدث هذا العمل فزعاً لدى المستثمرين بالسندات الصادرة بالليرة التركية، ما أدى إلى إغراق الأسواق بها. وشرعت تركيا، وبتشجيعٍ من رئيسها رجب طيب أردوغان، في شراء الليرة التركية من الأسواق مقابل الدولار.

وتراجع سعر صرف الليرة بنسبةٍ تفوق 30% خلال فترة وجيزة، إلى أن زار أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أنقره، وتعهد بتقديم استثمارات بقيمة 15 مليار دولار إلى تركيا، ما عدّل الأسعار.

ولكن بسبب استمرار المضاربة في الأسواق، والحديث المتواصل عن كبر حجم المديونية التركية، وتراكم العجز التجاري، وارتفاع معدّل التضخم داخل تركيا، فقد عانت الليرة. وكلما اتخذت السلطات التركية إجراءً لتحسين وضع الليرة، قوبلت بإجراءات مضادّة، ولذلك نرى هذا التقلب في سعر الليرة بين حين وآخر.

وبالنسبة إلى إيران، فإن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، تحت ضغط اللوبي المناصر لحكومة إسرائيل المتطرّفة، وسعي الولايات المتحدة إلى الضغط على إيران، كي تنفجر من الداخل، بدلاً من الدخول معها في حربٍ عسكرية مكلفة، قد أدّيا إلى تبني الولايات المتحدة إجراءات عقابية، من أهمها الحجز على موجودات إيران بالدولار.

وبالطبع، أدّى هذا إلى تقلص الأموال بالدولار المتاحة لها، ما سبّب تراجعاً في سعر عملاتها يغذّيه نقص السلع الأساسية في الأسواق الإيرانية، ما رفع الأسعار ومعدّلات التضخم في السوق المحلية.

وكذلك الحال بالنسبة إلى فنزويلا التي عانت الأمرّين منذ سنين من الحصار الأميركي، وإصرار القيادة الفنزويلية على عدم الرضوخ للمطالب الأميركية. وهكذا عانت فنزويلا من تراجع اقتصادها تراجعاً كبيراً، دفع مئات الألوف من سكّانها إلى الهجرة، وطلب اللجوء في البلدان المجاورة، مثل البرازيل وكولومبيا وغويانا.

ولم تفلح كل جهود الحكومة الفنزويلية في تعديل الوضع، بل تراجعت عملتها (البوليفار) وتدهورت إلى حد أن الحكومة هنالك صارت تصدر فئات نقدٍ بمئات الألوف، بل وبملايين البوليفارات. وفي الشهر الماضي، اضطرّت إلى حذف خمسة أصفار من عملتها، وسمّت العملة الجديدة "بوليفار سوبيرانو"، أو البوليفار السيادي.

والدولة التي تعاني الأمرّين في الوقت الحاضر هي الأرجنتين، والتي وصل معدّل التضخم فيها إلى أكثر من 800%.

والسبب، كما تقول وكالات الأنباء العالمية ومحطات التحليلات الاقتصادية والمالية، سوء إدارة الاقتصاد، والتمادي في الإنفاق الحكومي، واختلاط الأولويات، لكن الأرجنتين دولة غنية بالموارد، ومساحتها تبلغ 2.78 مليون كيلومتر مربع، بينما لا يزيد عدد سكانها عن 44 مليون نسمة، لكنها لا تقبل إملاءات الولايات المتحدة، وتأخذ من إسرائيل موقفاً لا يعتبر إيجابياً في نظر الإدارة الأميركية.

وكذلك البرازيل التي تراجعت أحوالها الاقتصادية، وعاد إليها التضخم، والفساد، وكانت كارثة كأس العالم عام 2014 وفساد إدارة الرئيسين، لولا دا سيلفا وديلما روسيف، المودعين في السجن بتهمة الفساد وسوء الإدارة، لكن ميولهما الاشتراكية، ورفضهما الهيمنة الأميركية فتحت عليهما أبواب العقوبات.

ومن الاستعراض السريع للدول الخمس التي تعاني اقتصاداتها من تراجع أسعار الصرف، والغلاء، ونقص المواد، بدرجاتٍ متفاوتة، فإن العنصر المشترك بينها أنها رفضت الإملاءات الأميركية عليها، لكن إدارة ترامب هي التي اختارت لغة التصعيد ضد هذه الدول الخمس.

وحيث إن الحلول العسكرية لا تجدي كثيراً مع هذه الدول، فقد وجدت الإدارة الأميركية أن خير وسيلة للهجوم على هذه الدول، وأقلها كلفة، أن تعبث بعملتها، مستخدمةً نفوذها على مصارف العالم، من خلال الشروط التي تضعها مقابل الحوالات بالدولار، أو مقابل استثمارات هذه البنوك في سندات هذه الدول، سواء بالعملات المحلية أو بالدولار.

ولا تستطيع البنوك في العالم أن تجري مناقلاتٍ أو تنفذ حوالات بالدولار من أي دولةٍ إلى أخرى، إلا عبر البنوك الأميركية داخل الولايات المتحدة. وتستطيع وسائل الرقابة الإلكترونية التي تتحكّم فيها الولايات المتحدة رصد هذه العمليات المصرفية.

وقد وفرت التكنولوجيا والهيمنة المالية، من خلال الدولار، للولايات المتحدة قوة تأثير هائلة في اقتصادات الدول، ولعل أرخص هذه الوسائل وأسرعها أثراً العبث بسعر صرف هذه العملات. وبتراجع سعر صرف العملات، تنكشف العيوب الداخلية والهيكلية في البنى الاقتصادية، فتجد الدولة المستهدفة نفسَها وقد وقعت في شركٍ كبير.

لا يمكن أن تكون الحرب الاقتصادية التي تُشن ضد الدول إجراءات الحصار أو المقاطعة، وقد ثبت أن الدول تستطيع أن تتجاوز هذه العقبات، بل قد يزداد بعضها قوةً، لأنه سيضطر للاعتماد على ذاته، وتطوير إمكاناته، ولكن المعضلة تكمن في العملة، إذا سقطت وهوت بفعل من بيده "الريموت كونترول" الذي يخسف العملات بالأرض، ما يربك الاقتصاد المستهدف، ويجعله في حيرة ماذا يفعل.

استهداف الصين، واليابان، وأوروبا، وروسيا، وفلسطين، وتركيا، وإيران، وباكستان، وفنزويلا، والإكوادور، والبرازيل والأرجنتين، وغيرها، سوف يجعل قضية التعامل بالدولار قضية مطروحة للبحث. آن الأوان أن يصبح اليورو والعملة الصينية عملتين دوليتين مثل الدولار، حتى لا يُترك العالم فريسةً لأهواء الولايات المتحدة.
المساهمون