تحتفظ حكايات يوم 25 يناير بمقام رفيع، كونها "حكايات مؤسسة"، إذ أسست لتحول ما كان سيطلق عليها لاحقا في حال فشل اليوم، "مظاهرات 25 يناير"، أو "مؤامرة يناير" كما يحاول البعض تصويرها الآن، إلى "ثورة 25 يناير المصرية".
وتسببت مواقف هذا اليوم ومروياته التي تداولتها صفحات الفيسبوك والكاميرات القليلة التي تابعتها، في استبدال مجموعة الأساطير التي تعمدت السلطة والنخب المختلفة التي تدور في فلكها، ترسيخها على مدى عقود، لإبعاد الناس عن التفكير في استخلاص حقوقهم.. بدءا من "الشعب دا مش ممكن يثور.. التي كان يكررها الرسميون ونخبهم، ومرورا بأن الشعب مستعد لأن يضحي لغاية آخر واحد من (الإخوان).. التي كان يكررها قيادات الإخوان، وصولا لـ خلوهم يتسلوا.. التي ختم بها مبارك".
وأسست يناير لمرحلة جديدة، بنى فيها المصريون بالفعل لا بالقول فقط مجموعة أساطيرهم التي تم تغييبها طويلا، عن الوطن الجامع والعيش المشترك والعمل المشترك والجماعة الوطنية، والتي يبدو أنهم ما زالوا بحاجة لأن يؤمنوا بها، وأنها بحاجة لفرز وتمحيص وتوكيد، لتساعدهم في معركتهم الطويلة لتحقيق الحرية والعدل والكرامة في وطنهم.
وأحسب أن البطل الأساسي في هذه الحالة الفريدة أولئك المجهولون، الذين شوهدت بطولاتهم ورويت آثارهم وجُهلت أسماء أغلبهم، هؤلاء هم الذين وهبوا مصر تلك الصفحة المضيئة وأضافوا للذاكرة الوطنية صورة فريدة في حب الوطن والانتماء والتضحية والشجاعة والتفاني، ستبقى شاهدة على جرم كل من يصر على تفتيت المصريين وإخضاعم لسلطان الخوف والحاجة.
وحكايات هؤلاء هي التي جعلت اليوم مختلفا في شكله وطعمه ولونه ومآلاته.. لولا مئات المجهولين والمغمورين.. لكان اليوم عاديا.. ولكانت أيامنا بعده عادية.
فلولا أبناء الأحياء الشعبية، الذين تفاعلوا مع مظاهرات "الناشطين"، التي انطلقت من أماكن مختلفة، لكان اليوم "عاديا".
ولولا المواطنون في البيوت الذين تفاعلوا مع مظاهرات الشوارع وراحوا يلقون إليهم الأعلام وزجاجات المياه.. لمرّ اليوم "عاديا".
ولولا صمود الشباب في مواجهة الحواجز الأمنية الواحد تلو الآخر التي اعترضتهم، واقتحموها واخترقوها، حتى بلغوا التحرير بحشود لم تشهدها شوارع مصر في أعدادها ولا روحها منذ سنين.. لكان اليوم عاديا"..
ولولا تلك الحالة "الوطنية" التي ذابت فيها كل الرايات في "علم مصر" وتوارت كل الشعارات خلف شعار "عيش حرية كرامة إنسانية عدالة اجتماعية".. لكان اليوم عاديا.
ولولا بطولات الأولتراس في مواجهة الداخلية في أقصى طرف الميدان.. لكان اليوم عاديا.
ولولا السيدة المسنة التي حملت أرغفة الخبز وراحت توزع منها على بعض الشباب الذين ربما لم يكن الجوع قد أكلهم بعد.. لكنها أعطتهم درسا قيما.. لكان اليوم عاديا.
ولولا الشباب المختلفون شكلا وجنسا ودينا وفكرا ومستوى اجتماعياً، بين الشاب "الكيوت" والشيخ "السلفي" والفتاة "المسيحية" وشباب الإخوان واليسار الذين تحلقوا يغنون للوطن، فصبغوا اليوم والميدان والثورة بصبغة كانت علامة تميزها ومفتاح إنجازها.. لكان اليوم عاديا.
ولولا الذي هتف لأول مرة "الشعب يريد إسقاط النظام" بعد ساعتين أو يزيد من دخولنا التحرير، ليرسموا سقف الميدان والحلم، في اللحظة التي جلس فيها البعض يرتب لسقف مطالب ينتهي قبل نهاية اليوم.. لكان اليوم عاديا.
ولولا الشباب الذين انطلقوا في أرجاء الميدان ينادون على كل متململ بعد ساعات من دخول الميدان، ويستوقفون كل من يرونه قريبا من مخارج الميدان.. يقولون له: اوعى تكون زهقت ومروّح.. وينشدون بمرح "الجدع جدع والجبان جبان.. واحنا يا جدع هنبات في الميدان".. لكان اليوم عاديا.
ولولا الشباب الذين صمدوا بعد ضربة الشرطة للميدان في منتصف الليل، فرفضوا أن يهربوا وينفضوا إلى بيوتهم بعد يوم شاق ومرهق، وانتشروا مجموعات في شوارع وأحياء وسط البلد مرورا برمسيس وبولاق أبو العلا، وصولا لروض الفرج بعد طلوع الفجر، وغيرها من المناطق والشوارع، ثم العودة للتحرير مع الصباح.. لكان يوما عاديا.
ولولا "مصطفى رجب" ابن السويس.. أول شهيد في الثورة المصرية.. لكان اليوم عاديا.
ولولا الشباب الذين واجهوا مدرعات وآليات الشرطة بصدر مفتوح ودون حسابات معقدة، لكان اليوم عاديا.
تلك الحالة المثالية التي انطلقت في 25 يناير، وشكلت بعد ذلك سمات أيام التحرير الذهبية، مليئة بالمواقف والمرويات التي، حتما، سيأتي اليوم الذي تكون محل فخر لا لأصحابها فحسب، بل لكل منتسب لهذا الوطن، أن تاريخ بلده حمل صفحات كتلك، حيث أظهر المصريون أنقى ما في معدنهم، وأثبتوا لأنفسهم قبل العالم أن ثمة قيمة دفينة تحت ركام الإذلال وقلة الحيلة وتشتت الكلمة، ما إن وجدت فرصتها حتى تفجرت بأروع النماذج.
فتحية إلى هؤلاء أينما كانوا، ورغم كل الأكاذيب والأراجيف والتدليس والتشويه والتزييف ولطمس عوامل الحياة في هذا الشعب.. ستبقى هناك حقيقة راسخة.. أن شبابا نسجوا لتاريخ مصر أياما وقف العالم كله احتراما لها.. لا يدنسها ما كان بعدها، ولا تنسخها عواقبها.
*مصر