أسئلة النكبة الأخرى

21 مايو 2014

Gary Waters

+ الخط -
قبل أيام، حلت ذكرى النكبة، وخرج آلاف الفلسطينيين في تظاهرات لتذكير المحتل الصهيوني بأن دولته لن تصبح "واقعة تاريخية"، وهذا حراك يمكن أن يقرأ ضمن نقدٍ يؤكد على الطعن في شرعية وإنجازات ما يسمى الدولة الوطنية العربية، والتي تشكلت في خمسينيات القرن الماضي، أي أنها تزامنت هي الأخرى مع الذكريات الأول للنكبة الفلسطينية. ولكي نفهم المشهد العام المتحرك الآن في فلسطين المحتلة، وفي قلب الجماهير العربية المنتفضة، لا بد أن نلاحظ أن واقعة نكبة فلسطين لم تنفصل، أبداً، عن واقع نكبة المواطن العربي في الاستبداد المحلي.
وقبل نحو ثلاث سنوات، نشر أستاذ العلوم السياسية، الدكتور أحمد يوسف، مقالاً بعنوان "وداعاً للدولة"، وذكر فيه أن الدولة المصرية توشك أن تصبح مهددة بالانهيار، إذا استمرت حالة الفوضى في المطالب ومعالجتها، ورأى أن البديل سيكون الديكتاتورية، شكلاً استباقياً للفوضى التي ستؤدي إلى الانهيار. وفي تونس، تحدث محلل آخر في الفترة نفسها عن انكشاف ضحالة الوعي الوطني لدى التونسيين بعد الثورة، وقال إنهم يتعاملون مع الدولة كسكان، لا كمواطنين.
السؤال الأبرز هنا بعد ذلك: هل نحن في حالة انزياح حقيقي لمشروع الدولة وفكرتها في الوطن العربي؟ يبدو السؤال مبرراً إذا تأملنا فسيفساء المنازعات في تونس ومصر: إنها نفسها في كل قطر عربي، وإن اختلفت التفاصيل قليلاً، لقد غابت الدولة عقوداً عن مسرح الثقة لدى المواطن، فأصبح شكه فيها، وفي رموزها، معرضاً للتعاظم عند أول بادرة.
هل ما زلنا نحتاج حقا للدولة؟ هل توشك دولنا الخمسينية تقريباً أن تسحب من عباءتها السلطوية، لتتركنا للتيه واللجوء كما حدث في نكبة فلسطين؟
تبدو الخيمة والأهل المرتحلون في عمق الصحراء، والظلام الدامس، والشخص الباحث عن نار لعلهم منها يصطلون، أبرز سمات المشهد الموريتاني، كحالة معيارية قريبة منا، عند تأسيس الدولة سنة 1960. كانت الفوضى أو "السيبة"، كما يسمونها محلياً حديثة العهد بهذه الصحراء الشاسعة، وضاربة بأطنابها حتى حدود الماء "البحر والنهر". لذا، بدا مشروع الدولة عند تأسيسه مجرد فلسفة تقضي باللجوء للقوة المنظمة لقمع القوة المنفلتة، بدا الأمر، آنذاك، وكأنه نهاية حديثة ومعاصرة لفيلم تاريخي "قديم وهمجي". وقد يكون غريباً تصور أن الذهنية "الفوضوية" التي سادت على هذه الجغرافيا العربية الإفريقية نفسها الكامنة في مناطق أكثر "حضارة"، كمصر وتونس وليبيا وسورية.
لكن، ما يكشفه جليد الواقع العربي المتهاوي تحت وطأة الثورة، أن مشروع الدولة الذي بدا متطوراً، في سبيل تكوين هوية مواطَنَة، يخفي أن الشعب العربي والمسلم هو، مهما اختلفت الجغرافيا والتموضع التاريخي.
لابد أن ملاحظة أولى تنغرس في فكرنا إذا تأملنا تاريخ الدولة العربية الحديثة، وهي أن الدولة كانت طوال عمرها الخمسيني تقريباً مجرد ملمح لقائد يجمع كل الأمور بيديه، ويكتسب ألقاباً عديدة: قائد الشعب، أبو الأمة، الزعيم الملهم، الملك ...
لقد تحول الكيان السياسي، برمته، إلى إكسسوار يبرز عظمة الرئيس، وضرورة خلوده في كرسي الحكم، واستكان الشعب عقوداً طويلة لهذا الإخراج القسري لصورة الدولة.
وقد يكون ذلك ما دفع بعض الباحثين في سوسيولوجيا السلطة إلى إطلاق عدة تصنيفات للمجتمع العربي، فكتب الدكتور عبد الله حمودي إن علاقة الشعب المغربي مثلاً بالملك تتماهى مع علاقة الشيخ بمريده، وألف في ذلك كتابه "الشيخ والمريد". وعلى المنوال نفسه من "تخطئة الذات"، سار الباحث البريطاني من أصل عراقي، إيلي قدوري، وهشام شرابي من فلسطين، والذي يدفعنا في كتاب له إلى أن الديكتاتورية تمثل بالنسبة لنا تراثاً "أبوياً" يتم توارثه. ويقرر هؤلاء الباحثون أن الذهنية العربية والمسلمة محكومة بعوائق تشتبك مع تاريخها الطويل، وغير قادرة على الإحساس بأهمية الديمقراطية، وضرورة الانتقال نحو حكم منظم وأفقي.
ثم حدثت الثورة، وتحرك المواطن العربي، ليزيح سيطرة الفرد، لكنه طرح مفهوم الدولة تحت ضغط آخر، هو ضغط الهوية، أو المواطنة الغائبة، هل عمل الفرد المستبد على صياغة مفهوم "مفرق" للهوية؟، هل يجبر المسيحيون، مثلاً، على تبني مفهوم الجماعة الإسلامي؟ هل يعني ذلك العودة إلى مربع الذهنية المخطئة، والمتهمة للشعب في فكره وتراثه كما أسلفنا؟ ما الذي يجعل السود ينغمسون في عجين "الخبز"، لكي يرضوا ذائقة إخوانهم البيض أو السمر؟ تلك من بعض أسئلة النكبة الأخرى المستمرة.

 

4D8EB186-878A-4661-9143-F7EE55E566CB
الحبيب الشيخ محمد

كاتب موريتاني