أزمة سدّ النهضة تتفاقم...هل يكون الخلاف المقبل مصري سوداني؟

28 ديسمبر 2015
وزير خارجية اثيوبيا (اليمين) ونظيره السوداني (فرانس برس)
+ الخط -
حاولت مصر الخروج بأقلّ الخسائر الممكنة في مفاوضات سدّ النهضة، بعد إنجاز إثيوبيا خطوة تحويل مجرى النيل من داخل منشآت السد، والسعي لفرض أمر واقع عبر بدء ملء الخزان الأساسي. وتعمل مصر على تعطيل هذه الخطوات والانتهاء من مرحلة الدراسات، التي كان مقرراً الانتهاء منها رسمياً قبل منتصف العام المقبل، وذلك في اليوم الثاني والأخير من مفاوضات السدّ في العاصمة السودانية الخرطوم، أمس الاثنين.
وكان وزراء خارجية الدول الثلاث، المصري سامح شكري، والسوداني إبراهيم غندور، والإثيوبي تيدروس أدهانوم، ووزراء ري الدول الثلاث، المصري حسام المغازي، والسوداني معتز موسى، والإثيوبي موتو باداسا، اتفقوا على أن توكل نسبة 30 في المائة من دراسات السدّ إلى مكتب فرنسي أو أوروبي جديد، بدلاً من المكتب الهولندي، الذي رفض جميع محاولات إعادته إلى العملية مرة أخرى، بينما يظل المكتب الفرنسي الأول محتفظاً بنسبة 70 في المائة من الدراسات.

وفي الجولة الحالية من المفاوضات، التي كانت إثيوبيا تتمنى أن تكون الأخيرة، بدت المسافات شاسعة بين الطرفين المصري والإثيوبي، فالأول يتمسك بعدم المضي قدماً في الإنشاءات، سواء الخاصة بتخزين المياه أو تلك الخاصة بتوليد الطاقة الكهرومائية التي أوشكت على الانتهاء.

أما الطرف الثاني فيرى أن استكمال عملية الإنشاءات من عدمها، هو قرار سيادي خاص بإثيوبيا، ولا تشاركها فيه أي دولة أخرى. ويُبرّر ذلك بأن الوثيقة الثلاثية لاتفاق المبادئ، التي وقعتها الدول الثلاث في مارس/آذار الماضي، لا تتحدث عن الإنشاءات، بل عن فترة الملء الفعلي للخزان.

وهنا تكمن الخطورة على مصر، فالجانب الإثيوبي يحاول فرض التمييز بين عمليتي ملء للخزان؛ الأولى، يريد أن يبدأها الآن من دون إبطاء، على أن تكون محدودة من أجل اختبار قوة الإنشاءات وتحمّلها وتجريب آلية العمل بالسدّ، قبل نحو عام من انتهاء جميع الإنشاءات. أما عملية الملء الثانية، فتتمثل في الملء الفعلي الذي تحدثت عنه الوثيقة الثلاثية.

في المقابل، لا يرى الجانب المصري أي اختلاف بين العمليتين فيما يخصّ الأضرار التي ستعود على مصر، ففي حال بدأت فترة الملء التجريبية الآن، ستنعكس بالسلب والقصور الكبير على مستوى المياه المخزّنة في بحيرة ناصر المصرية. وسيؤدي هذا إلى حالة جفاف لم تكن الحكومة تحسب له حساباً، وسيضع الدولة في مأزق حقيقي أمام مشاكل جمّة.

وتبني مصر سياستها في التفاوض على تعطيل البدء في الملء الفعلي للخزان لأطول فترة ممكنة، حتى تُجهّز بدائل سريعة لتوفير الطاقة الكهربائية، تُمكّنها من تعويض النقص الأكيد في تدفق المياه، الذي سيصيب السد العالي خلال فترة ملء سد النهضة وبعد تشغيله فعلياً. وهي البدائل المتمثلة في محطات توليد الوقود، التي بدأت شركة "سيمنز" الألمانية إجراءات إنشائها، والتي لن تبدأ الإنتاج إلاّ منتصف عام 2017، وبقدرة تصاعدية، وليس بقوتها القصوى منذ بداية التشغيل.

ودفعت هذه المخاوف مصر إلى طرح اقتراح على طاولة المفاوضات، تكشفه مصادر دبلوماسية مصرية خاصة لـ"العربي الجديد"، مفاده أن "تتشارك الدول الثلاث في إدارة السد خلال فترة الملء الفعلي الأولى للخزان، بحيث تلتزم إثيوبيا برأي مصر والسودان فيما يتعلق بالمدة وحجم التخزين مع ضمان الفصل بين فترات التخزين".

وتؤكد المصادر أن "إثيوبيا رفضت هذا المقترح نهائياً، وأكدت مخالفته للوثيقة الثلاثية، باعتبار أن قرار بدء الملء الفعلي هو فقط الذي تعهّدت بأن تراعي فيه الدولتين الأخريين، من دون أن يمتد ذلك لمسألة إدارة العمل خلال الفترة نفسها". مع العلم بأن مصر هي الدولة الوحيدة فعلياً، التي ستتأثر سلباً في فترة ملء الخزان، لأن السودان يمتلك مصادر مائية أخرى، مع الأخذ في الاعتبار الفوارق بين عدد السكان وانتشارهم جغرافياً بين البلدين.

وإزاء هذا الرفض الإثيوبي، تمسكت مصر من جهتها برفض البدء في الملء التجريبي، وهو ما يعني وقف الإنشاءات لفترة، ربما تقصر أو تطول بحسب مدى إنجاز المكتب الفرنسي القديم والمكتب الجديد الذي لم يتم تحديده بعد، للدراسات المطلوبة. وتؤكد المؤشرات، أن المفاوضات الثلاثية ستستمر على الأقل لحين إتمام الدراسات، إلاّ إذا بدأت إثيوبيا ملء الخزان بشكل فردي، سواء تجريبياً أو فعلياً.

اقرأ أيضاً: إثيوبيا ترفض اشتراطات مصر حول سدّ النهضة

وتفيد المصادر المصرية أن "الخيار الأول، بل الوحيد لمصر حالياً، هو الاستمرار في التفاوض، حتى إذا تعرّضت للعرقلة. وعملية إنشاء السدّ وتأثيره على مصادر مصر المائية بات أمراً واقعاً، والتفاوض هو الوسيلة الوحيدة حالياً لضمان عدم الإضرار الجسيم بالمصالح المصرية. وهو ما كان على الدوام جوهر حديث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي".

وحول إمكانية اللجوء إلى التحكيم الإقليمي أو الدولي بين البلدين، في حال مخالفة إثيوبيا للاشتراطات التي تضمّنتها الوثيقة الثلاثية، تؤكد المصادر أن "الوثيقة، للأسف، لم يكن لها أي شق قانوني، وتعبر عن لحظة اعتقدت فيها الإدارة المصرية أن الحل ممكن بالتعهدات السياسية فقط، غير أن الواقع العملي أثبت عكس ذلك، لكن هذا لا ينفي إمكانية تدويل القضية عبر القنوات الدبلوماسية الأفريقية أولاً ثم الأممية".

وعلى ضوء هذه المعطيات، يبدو أن موقف إثيوبيا قد ازداد قوة، منذ أن سلكت مصر طريق التفاوض الرسمي الثلاثي وتوقيع وثيقة المبادئ. ذلك لأن الوثيقة حولت مشروع السد الذي كانت تعارضه مصر جذرياً، وبقوة، في فترات سابقة إلى أمر واقع، وفي إطار الدراسات الإنشائية والإجرائية التي قامت بها إثيوبيا بمفردها، من دون أن تفرض مصر شروطاً لمراجعتها.

كما يدعم موقف إثيوبيا في استمرار إنشاءات السد، اشتراك العشرات من المستثمرين الأجانب في العمليات الإنشائية وتوليد الطاقة، من إيطاليا وفرنسا والصين وإسرائيل وبعض الدول العربية الخليجية، بالإضافة إلى ربط الحكومة الإثيوبية تسهيلات استثمارية واسعة في أراضيها على الصعيد الزراعي والصناعي بإتمام المشروع، الذي من المنتظر أن يكون الأكبر في القارة الأفريقية.

وتعوّل إثيوبيا كثيراً على قوة علاقاتها بدول المستثمرين في المشروع، لحمايته من أي أخطار فعلية باستهدافه عسكرياً، أو أخطار سياسية أو قانونية بتدويل القضية مما قد يترتب عليه من احتمالات ضعيفة بتعطيل الإنشاءات، أو عرقلة إثيوبيا عن بدء ملء الخزان في المواعيد المقررة سلفاً.

ومن المنتظر أن يجتمع رؤساء الدول الثلاث مصر والسودان وإثيوبيا في يناير/كانون الثاني أو فبراير/شباط المقبلين، في الخرطوم، لتقييم الواقع الحالي وإعادة النظر في آليات تنفيذ وثيقة المبادئ الثلاثية، وسط اعتقاد بأن أقصى ما باتت تملكه مصر، هو محاولة تعطيل ملء الخزان ووضع ضمانات لعدم الانفراد بسياسة الملء المستدامة.

من جهته، يتوقع وزير الموارد المائية والري المصري الأسبق، محمد نصر علام، حدوث نزاع بين مصر والسودان على مياه النيل خلال الفترة المقبلة، بعد فشل اجتماع "سدّ النهضة" المتوقع بالخرطوم. ويشير علام إلى أن "سد النهضة سيؤثر على تدفق المياه إلى دول المصب: مصر والسودان". كما لم يستبعد في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، قيام السودان بـ"إنشاء سد له، حفاظاً على نصيبه من المياه، وبالتالي وقوع نزاع مصري ـ سوداني، خلال الفترة المقبلة".

وينفي علام وجود "أي اتجاه لعقد اجتماعات أخرى بين الدول الثلاث، إثيوبيا ومصر والسودان، بخصوص أزمة السدّ، وإن كانت هناك اجتماعات فسيكون الحكم عليها مسبقاً، مثل فشل الاجتماعات السابقة". ويضيف أن "إثيوبيا نجحت بامتياز في إدارة ملف السد لصالحها، وأن أي اتجاه لضرب السد سيكون له أثر عكسي، خصوصاً أن بنيته التحتية تمتاز بالتسلّح المضغوط لمواجهة أي قاذفات صاروخية". ويلفت إلى أن "الاتجاه العام في مصر سيكون على محورين، بعد نتائج المفاوضات، وهو الرجوع إلى الحكومة للتشاور، أو الاتجاه إلى المجتمع الدولي".

ويرى علام أن "قيام إثيوبيا بتحويل مسار النيل الأزرق، ليمرّ عبر بوابة سدّ النهضة، تحدٍّ جديد لمصر معناه: اخبطوا دماغكم في الحيط". ويُعلّل ذلك بإشارته إلى "ملء السد بـ14 مليار متر مكعّب من المياه خلال 6 أشهر، الأمر الذي سيؤثر على مصر والسودان مائياً، وسيؤدي إلى خراب مصر خلال أربع سنوات، وتحوّلها إلى صحراءٍ، في ظل صمت رهيب من جانب الحكومة. على الرغم علمها بفشل المفاوضات مسبقاً".

ويصف علام المفاوضات بـ"العقيمة وأن الاستراتيجية المصرية القائمة على المرونة والثقة بالجانب الإثيوبي، لم تجن الثمار المناسبة، وأن أديس أبابا استطاعت توظيف الوقت لمصلحتها". ويلفت إلى أن "تصريحات لمغازي حول أن تحويل إثيوبيا مجرى النيل الأزرق لا يعني، من الناحية الفنية، تخزين كميات مياه أمام السد، تُعتبر تكريساً للمصالح الإثيوبية وتبريراً لموقفها في الاستمرار بالبناء". ويوضح أن "أديس أبابا ستقوم بتشغيل أكثر من خمس توربينات كهرباء من أصل 16، بعد أن قامت بالفعل بتشغيل توربينتين". ويطالب علام بـ"ضرورة تدويل قضية سد النهضة، من خلال رفع قضية عاجلة أمام محكمة العدل الدولية، بعد فشل كل المفاوضات سواء السابقة أو اللاحقة، إذا كانت هناك اجتماعات أخرى".

ويؤكد أن "إثيوبيا استطاعت عبر بناء السدّ زحزحة مصر عن مكانتها في أفريقيا، من خلال التحكم الاستراتيجي بمياه النيل من المنابع، وتلك قضية أمن قومي ستؤثر بشكل كبير على مصر". ويُشدّد على أن "مصر فرطت في حقوقها كاملة من خلال اعترافها بالسدّ، من خلال وثيقة سد النهضة التي وقعت بالخرطوم في مارس/آذار الماضي".

اقرأ أيضاً: مصر تغازل الخرطوم لدعمها في نجاح مفاوضات سد النهضة