أزمة الإخوان المسلمين... سوسيولوجيا عن الفرد والجماعة

15 مايو 2016

المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين بالقاهرة عند الاعتداء عليه(1يوليو/2013/Getty)

+ الخط -
على الرغم من مرور 87 عاماً على نشأة حركة الإخوان المسلمين في مصر، لا زالت هناك أسئلةٌ عديدة لم تجتهد الجماعة في إثارتها، أو الإجابة عليها، ويمكن اعتبار الأزمة الحالية واحدة من تداعيات المشكلات التنظيمية، وهو ما يثير الجدل حول طبيعة الجماعة ومستقبلها، ولعل أهمها ما يتعلق بفلسفة الهيكل التنظيمي وتوازن علاقاته الداخلية، حيث تعد إشكالية مكانة الفرد داخل جماعة الإخوان المؤشر الرئيسي على فاعلية الجماعة وحيويتها وانسياب السلطة. وهنا يمكن النظر إلى ندرة القيادات الفكرية والروحية ظاهرةً تتطلب تفسيراً يقترب من العوامل التي صاغت الجماعة منذ عقد السبعينيات.

المركزية التنظيمية
على الرغم من تغير الظروف الاجتماعية والسياسية، لم يحدث تطوير للهيكل التنظيمي يلتقي مع تلك التغيرات، ما رسخ حالة من المركزية، تقاربت سماتها الأساسية مع خصائص التنظيمات الماركسية، وذلك على الرغم من اختلاف أهداف التغيير الاجتماعي وسياساته، وصارت لوائح "الإخوان" تتبنى مفاهيم أقرب إلى "المركزية الديمقراطية"، حينما ركّزت على أن الانضباط التنظيمي هو المعيار الرئيسي لتقييم أداء الأفراد، حيث لجأت، في فتراتٍ كثيرة، إلى اتخاذ إجراءات إدارية بحق أعضائها، تراوحت بين وقف العضوية والفصل، لأسبابٍ ليست فكرية، ما يثير الجدل بشأن المصادر والمرجعية التي استندت إليها تلك الإجراءات، فهي تتناقض مع مبادئ عامة لدى جماعة الإخوان، تتمثل في أنها لا تتبنى مذهباً دينياً، وأن أصولها الفكرية تدعو إلى ترسيخ التنوع الفكري، وتحفيز المبادرات الفردية.
ويعكس هذا الوضع ثنائية العلاقات الداخلية، حيث صار شائعاً في الثقافة التنظيمية أن العلاقة هي بين الفرد والجماعة، وليس بين الفرد والقيادة، وهذا النمط من العلاقة يكشف عن حالة تطابق بين الجماعة والقيادة، فيما يكون الفرد مكوناً ثانوياً. ولذلك، ركزت اللوائح على واجبات الفرد، من دون إشاراتٍ واضحة للحقوق التي يتمتع بها، وهذا لا يعني فقط وجود حالة من المركزية التنظيمية، لكنه يعبر عن مكانة الفرد في مواجهة المواقع التنظيمية، وقد شكّل استمرار المركزية عاملاً أساسياً في تباطؤ دوران النخبة، وتركّزت قيم الممارسات التنظيمية على أساس فلسفة الأمر ممثلة في "السمع والطاعة"، فيما تتراجع أهمية القيم الأخرى.
وتشكل الأزمة الحالية تحدّياً للمركزية التنظيمية، فهي لم ترتبط بفكرة صراعات الأجيال، بقدر ما أنها شكلت انقساماً رأسياً، يعبر عن خلافاتٍ حول الخيارات السياسية والإصلاحية. ولكن
يصعب إهمال أن قطاعاً كبيراً من جيل الشباب صار يشكل ضغوطاً لأجل مراجعة الإطار التنظيمي. وهنا، كشفت الخبرات الاجتماعية والسياسية أن الجماعة كانت أقل قدرةً على التكيف مع مرحلة الانفتاح الاجتماعي والسياسي، فعلى الرغم من وجود فترة انفتاح سياسي (2011 – 2013)، لم تقدّم الجماعة رموزاً جديدة، وظلت الرموز التقليدية في موقع الإدارة والقيادة العليا. وهنا، لا يمكن اعتبار استمرار القيادات عاملاً سلبياً في حد ذاته، لكن المشكلة تكمن في عدم طرح أفكار وسياسات جديدة أو مختلفة، ويمكنها التكيّف مع مرحلة ديناميكية، ارتفعت فيها مؤشرات انفتاح النظام السياسي، ودخل كثير من مكونات المجتمع للمجال السياسي.

القيادة والنخبة
وتشكل الاحتمالات المختلفة لطبيعة السلطة داخل الحركات الاجتماعية، بطريقة توزيع أنماط القيادة بين النفوذين، الأدبي والروحي، والسلطة الإدارية، وترتبط هيمنة أي نوع منها بمدى قدرة القيادة على التعبير عن تطلعات المنضوين تحت مظلة الحركة. ووفق هذين التصنيفين، يمكن ملاحظة أن القيادة في حركة الإخوان المسلمين صارت تتجه إلى الاعتماد على السلطة الإدارية، بصورة أكثر من النفوذ الأدبي. وهذا ما يفسر كثرة الاختلاف حول مدى مركزية اللوائح ودورها في تسيير شؤون الجماعة، ووصل الجدل إلى اعتبارها العنصر الحاسم في تسوية الخلافات الداخلية، على الرغم من وجود قيم عليا عديدة أخرى، خصوصاً المرتبطة بتعريف الجماعة بأنها "روح يسري في الأمة"، وقيم الأخوة والتجرد، وغيرها من الأدبيات التي لم تستطع اللوائح التعبير عنها، أو ترجمتها إلى علاقات تنظيمية.
وفي الفترة التأسيسية، ارتكز مفهوم القيادة، في جماعة الإخوان على المكانة الروحية والزعامة، لكنه، في السنوات الأخيرة، شهد تغيراتٍ كثيرة، كان أهمها حدوث تحولاتٍ نحو التداخل بين البعد الروحي والأبعاد الإدارية الأخرى، حتى صارت فكرة القيادة تميل إلى نوعٍ من الرئاسيات الإدارية، وكان هذا التحول أكثر وضوحاً في المراحل التالية للمرشد العام عمر التلماساني، حيث ظهرت اتجاهات للاهتمام بالتنظيم عاملاً رئيسياً في الحفاظ على الجماعة. ومن ثم، انحصرت كل سياسات الحركة في الجوانب الإدارية، على حساب الإنتاج المعرفي وطرح أفكار إبتكارية تتصدى لمعضلات المشروع الإسلامي، ويمكن ملاحظة أن هناك حالة من الركود في طرح سياساتٍ للإصلاح أو التغيير الاجتماعي.

ويرتبط الإشكال الذي يثيره النزاع حول اللوائح بالخلاف حول مدى اقتراب النظام الداخلي من التعبير عن أهداف الجماعة، حيث يمكن الإشارة إلى أنه اقتصر على تنظيم السلطة الإدارية، بصورةٍ لا تضع إطاراً متوازناً للعلاقة بين الفرد والقيادة، فبينما خلت اللوائح من حقوق الفرد، اتسعت صلاحيات المسؤولين، وهو ما يعبر عن خللٍ معرفيٍّ، يحدّ من المبادرات الفردية، ما رسخ لنمط أقرب لعلاقة التابع بالمتبوع، وهو نمط يُعلي من هيمنة المنظور الكمي معياراً لتقييم قدرات الجماعة، فيما تتراجع أهمية النظر إلى أفراد الجماعة رأسمالاً اجتماعياً، وتشير التجربة السابقة إلى وجود قيود على الاستفادة من الإمكانات البشرية، ما يعكس وجود فجوةٍ بين السياسة التربوية المتبعة ونظرية بناء وتكوين " الفرد المسلم"، فقد صار التنظيم قيمةً عليا، كشفت عن أن الموقع التنظيمي هو المؤشر الرئيسي إلى مكانة الفرد، بحيث يمكن ملاحظة أن الفترة الماضية شهدت هدراً واضحاً للرأسمال الاجتماعي، ولم يستفد منه، سواء في تطوير الجماعة أو في صياغة مشاريعها الفكرية.

لعل ما تكشفه الأزمة الحالية هو أن الانقسام القيادي أدى إلى اهتزاز النمط التقليدي للقيادة، والذي ترسخ في مخيلة الأفراد على مدى تاريخ الجماعة، فبينما ظلت السلطة الأدبية والقيمة الروحية تشكل الإدراك العام عن القيادة لدى الأفراد، فإنه، في الفترة الحالية، ظهرت تغيرات ثقافية وسوسيولوجية ترى ضرورة مراجعة القواعد العامة، وتفعيل مبدأ المحاسبة وطرح الثقة، وهو ما يمكن أن يعد مؤشراً إلى حدوث تحولاتٍ عميقةٍ في العلاقات الداخلية، غير أن حدوث هذه التحولات يواجه قيوداً بسبب معضلة الركود الفكري، سوف يؤدي إلى واحدٍ من احتمالين: الأول، زيادة الاندفاع لتبني خياراتٍ من خارج النسق المعرفي، سواء في تطوير الجماعة أو طرح تصور للخروج من الأزمة السياسية أو حلها. والاحتمال الثاني، حيث تدخل الجماعة في مرحلة انكماش، نتيجة عدم القدرة على تسوية النزاعات الداخلية.

الرأسمال الاجتماعي
تشير خبرة السنوات السابقة إلى أن النظام التربوي لم يلبّ الاحتياجات الضرورية لمرحلة
الانفتاح على المجتمع، أو التوسع في الدور السياسي، حيث كان أكثر تركيزاً على بلورة علاقة "الشيخ" و"المريد" تحت مظلة المركزية، غير أن هذه العلاقة تعرّضت لاهتزاز شديد، فترة ما بعد 2011، ويمكن القول إن الجماعة لم تستوعب التغيرات الداخلية التي ظهرت في هذه الفترة، والمتعلقة بانتشار طرق التواصل، بحيث تراجعت أهمية القنوات التنظيمية في مقابل تزايد تأثير وسائل التواصل الاجتماعية في نقل أخبار الجماعة، وقد شكّل هذا التطور تحدياً لنظام التربية في "الإخوان المسلمين"، فتشكيل إدراك الفرد وتأهيلة لم يرتبط فقط بالمقرّرات التي تضعها الجماعة.
وبشكل عام، لا تقتصر السياسات التربوية على المنهج الثقافي، لكنها الوعاء الحاضن لترتيب العلاقات والصلاحيات داخل الهيكل التنظيمي، كعملية تكاملية وتضامنية لتكوين "الفرد المسلم". وهنا، يمكن قراءة المشكلات التنظيمية باعتبارها كاشفةً عن خللٍ في توازن العلاقات الداخلية وانخفاض الاستجابة للتغير في البيئة المحيطة، وهو ما يثير الإشكال حول مدى توافر تكافؤ الفرص ومعايير الكفاءة لدى صياغة سياسات جماعة الإخوان، فهذه المشكلة على علاقةٍ مباشرةٍ بظاهرة التسرب، فالأزمة الحالية واحدة من نواتج سيولة النظام الانتخابي وتباطؤ تطور النظام الداخلي.
ولعل التحدي الرئيسي، هنا، يرتبط بتفسير الأزمة الممتدة مع الدولة في مصر على أنها "ابتلاء"، واعتباره جزءًاً مهماً من المحتوى الثقافي، لكن محاولات التفسير لا تتصدّى لمساهمة العوامل الداخلية ومدى ارتباطها بالأزمات التي تواجه الجماعة، ما يولد حلقةً مفرغةً في قراءة المسارات التاريخية والسياسية. ولذلك، سوف يعمل إهمال العوامل الداخلية وطريقة دوران النخبة على استمرار الأزمة وإعادة إنتاجها.
وهذا ما يفسر استمرار الجدل حول مشروعية الجماعة على مدى الفترة (1954– 2013) من دون وضوح تصور للخروج منها، سوى التركيز على عدم صدور قرار بحل الجماعة، وهو احتجاج قانوني، تجاهل الانعكاسات السلبية على بنية الحركة، بسبب وقوعها تحت الحظر والملاحقة فترة طويلة، وكانت الانعكاسات واضحةً في غموض الإطار التنظيمي وتأخر المشروع السياسي، وتأخر المساهمات الفقهية والفكرية عن مواكبة التغيرات السياسية.
كما كشفت سياسات "الإخوان" عن غياب معايير توظيف الإمكانات البشرية، ولعل الفترة منذ العام 2011 كانت واضحة الدلالة على الفجوة بين إسناد المهام والكفاءات اللازمة لها، وهي حالة تكرّرت بشكل متواتر، سواء في المهام الداخلية أو المهام العامة. وهنا، تبدو معضلة أنه على الرغم من وفرة الرأسمال الاجتماعي لدى حركة الإخوان، فإن انعكاسه في مشروع
اجتماعي أو سياسي كان محدودا للغاية، ليس فقط بسبب التركيبة القيادية، ولكن، بسبب تضخم الهيمنة الإدارية على النواحي الفكرية. وهنا، كشفت التجارب العملية عن نقص في القدرة على التصدي لمشكلات الدولة والمجتمع، والتكيف مع التغيرات السياسية، فلم تفرز زياة معدل مشاركة "الإخوان" في برلمان 2005 أو وصولهم إلى السلطة في مصر في 2012أفكاراً أو سياسات ديناميكية، تستطيع إعادة التوازن بين الدولة والمجتمع، أو طرح نظريات وأفكار جديدة تساعد في وقف الاستقطاب قبل إطاحة الديمراطية، وهذا ما يعكس إشكالية تأرجح سياسات جماعة الإخوان المسلمين ما بين مرحلتي المجتمع والدولة.

اتجاهات المستقبل
في هذه الحالة، لا يمكن النظر إلى المستقبل من دون فهم دور الفرد داخل جماعة الإخوان، ومدى ملاءمة الوضع الحالي لتكوين حركةٍ ديناميكيةٍ تستطيع المساهمة في التغيير الاجتماعي، أو التكيف مع التحولات السياسية، وهي المطالب التي تعثرت على مدى السنوات الماضية، حيث ظهرت صعوباتٌ حالت دون التقدم في مشروع "تطوير الجماعة". وعلى الرغم من الحاجة لتحفيز المراجعة الداخلية، لم تستطع اللجان "الإدارية العليا" التي تشكلت منذ فبراير/ شباط 2014 إنجاز شيء يعتد به، بقدر ما أنها كشفت عن خلافاتٍ وصراعاتٍ كامنة، لم يتبلور إطار واضح لتسويتها.
يعكس هذا الوضع وجود فجوةٍ معرفية، تضفي صعوبةً على انتقال الجماعة إلى مرحلةٍ أخرى، تتمكن فيها من معالجة انقساماتها الداخلية، حيث تظل مشكلة التفاوت بين تعريف الفرد وواقعه الفعلي من التحديات التي تواجه التماسك الداخلي، وهو ما لا يقل أهميةً عن المناقشات الدائرة حول معضلة الدور السياسي للجماعة. ويمثل التأخر في مواجهة هذه المشكلات قيداً مانعاً عن النظر للمستقبل.

5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .