27 أكتوبر 2024
أزمة "الإخوان" والصراع على التنظيم
تمرّ جماعة الإخوان المسلمين في مصر بأزمة حادة وكبيرة، ربما تكون الأكبر في تاريخها، على خلفية الصراع القيادي بين ما تُعرف بـ"القيادة الشبابية" و"القيادة التاريخية"، في سجال ساخن بين الطرفين، تبدّلت في أثنائه الاتهامات بإصدار البيانات، والتراشق الإعلامي بإطلاق التصريحات، حيث يهدف كل طرف إلى نزع "الشرعية" عن الطرف الآخر، وإثبات أنه "القيادة الشرعية" التي يحقّ لها تمثيل التنظيم حصرياً.
وامتدّت آثار الأزمة إلى القواعد الإخوانية، حيث أعلنت مكاتب إدارية انحيازها لطرف في مواجهة الطرف الآخر، كما شهد الصفّ الإخواني موجة من الاستقالات، بالإضافة إلى اشتعال المواقع الإلكترونية الإخوانية وساحة العالم الافتراضي بجدل إخواني ساخن، بين مؤيّد ومعارض لهذا الطرف أو ذاك.
وقد تكون هذه الأزمة الأكبر في تاريخ "الإخوان"، إلا أنها تعكس أزمة أخرى أقدم، تعاني منها الجماعة منذ زمن طويل، لم يتم التعاطي معها بصورة سليمة، فقد خرجت جماعة الإخوان في سياق تاريخي معيّن له ملابساته وتفاصيله، ومنذ نشأتها تعاني من طغيان البعد "التنظيمي" على البعد "التنظيري"، وتغوّل الشق "الحركي" على الشق "الفكري". فمنذ نشأتها، تعاني من "فقر فكري" شديد، فمن يطالع أدبيات الجماعة القديمة يجد هدفها الوحيد هو بناء تنظيم قوي، ومتماسك، وعلى درجة عالية من الفعالية، باستخدام خطاب تعبوي حشدي، يغلب على لغته طابع الحماسة وتجييش المشاعر.
وبمرور الوقت، صارت الفكرة في خدمة التنظيم وليس العكس، حتى صار الحفاظ على التنظيم وتماسكه، وحمايته من الانشقاق، الهدف الأول للجماعة التي صارت أشبه بشخص مصاب بتضخّم "عضلي" وضمور "عقلي" في آنٍ معاً.
واللافت أن الإنتاج الفكري للجماعة توقف تقريباً عند رسائل مؤسسها الأول، ولم يخضع مطلقاً لأي عملية مراجعة، أو نقد، أو تنقيح، على الرغم من مرور عقود طويلة على لحظة ولادته، وكان لهذا الأمر أثر كبير في إصابة الجماعة بـ"الجمود الفكري"، إذ اجتمع في تكوينها الفكري الفقر والجمود معاً، فما زالت الجماعة تقتات على أدبياتها القديمة التي أُنتِجت منذ عقود طويلة، من دون أي محاولة للتجديد. الأمر الذي انعكس على عملية التنشئة الداخلية لأعضاء الجماعة وكوادرها في الوحدات التنظيمية الإخوانية، وهي عملية ذات اتجاه أحادي من أعلى إلى أسفل، وفقاً للهيراركية التنظيمية، والغالب عليها طابع التلقين والتحفيظ، من أجل إيجاد كوادر "تنظيمية" تخدم التنظيم، عبر طاعة أوامر قياداتها.
فالجماعة تهتم، بالأساس، بالتنشئة التنظيمية لأعضائها، على حساب التنشئة الفكرية التي إن حضرت يكون حضورها شاحباً هزيلاً، كما أن المناهج التي يتم تدريسها داخل الوحدات التنظيمية للجماعة تخلط بين عالمي الأفكار والأشخاص، بإضفاء هالة من القداسة على الرعيل الأول للجماعة، وما كتبوه في أدبياتهم، وهو ما يمنع إيجاد أي حوار جاد ذي طابع نقدي لتلك الأدبيات القديمة، وكانت محصّلة هذه العوامل عدم وجود مشروع فكري متماسك للجماعة، بمعالم واضحة، سوى خطاب هوياتي عاطفي، ومجرّد عناوين فضفاضة، يعلوها إطار هلامي.
ويعتمد الصعود التنظيمي داخل الجماعة على معايير "السمع والطاعة"، وتقديم أهل الثقة على أهل الخبرة، حيث تتم الترقية التنظيمية للعضو داخل التنظيم الإخواني بشكل "انتقائي"، وليس "تلقائي"، ولا تكون إلا وفق معايير خاصة، يجب توفرها في الشخص، أهمها مدى درجة ولائه وإخلاصه للتنظيم، ومدى طاعته قياداته.
وخلال تاريخه الطويل، ابتكر التنظيم الإخواني مصطلحات أو"كليشيهات" كبيرة، ذات طابع "ترهيبي تفزيعي" تعكس "النرجسية التنظيمية" من جهة، والتي تعمل، من جهة أخرى، على تحذير أعضاء التنظيم و"تخويفهم" من مغبّة الانشقاق عن الجماعة، وشقّ عصا الطاعة على قيادات التنظيم، وهي تستبطن "تقديس" التنظيم من ناحية، باعتبار أن الجماعة "ربّانية"، و"شيطنة" الخارجين عنها من ناحية أخرى (!). ومن أهم تلك الكليشيهات دأب التنظيم الإخواني على إطلاق صفة "المتساقطين على طريق الدعوة" على الذين انشقّوا عن التنظيم، وخرجوا من عباءته، وكذلك "الجماعة تنفي خَبثها"، والذي يردده العقل التنظيمي الإخواني، كلّما مرّت الجماعة بأزمة، وخرج عدد من أعضائها عنها.
تكمن مشكلة الإخوان المسلمين الحقيقية في التوقّف عند كل ما جاء به مؤسسها، حسن البنّا، بل وإضفاء هالة من القداسة عليه. على المستوى الفكري، ما زالت الجماعة تقتات على الأدبيات القديمة نفسها التي كُتبت منذ عقود طويلة، ولم تخضع لأي تنقيح أو تجديد، على الرغم من أنها خرجت في سياق ظروف تاريخية معينة، تغيّرت تماماً في الوقت الحالي. وعلى المستوى الحركي، ما زالت الجماعة تعمل بالآليات نفسها، والأدوات التي وضعها البنّا من دون إضافة أو تطوير.
وعلى الرغم من حدّتها وعنفها، تأتي الأزمة الحالية داخل "الإخوان المسلمين" خالية من أي أبعاد "فكرية" بين طرفيْها، ولا تتجاوز الدوائر "التنظيمية"، فهي وإن كانت تمثّل، في أحد جوانبها، صراعاً "جيلياً" بين جيلي الشيوخ والشباب، إلا أنه يظل مجرّد "صراع على التنظيم" من أجل الإمساك بزمامه والهيمنة على مقاليده، والانفراد بتوجيهه، من دون أي بُعد فكري أو طرح تجديدي.
في الماضي، كان الصراع داخل الجماعة بين المحافظين والإصلاحيين، إلا أنه بعد ثورة 25 يناير نجح التيار المحافظ في إطاحة الإصلاحيين الذين خرجوا تباعاً، طواعية واختياراً، أو قسراً واضطراراً، ويأتي الصراع الحالي ليكون بين أطياف التيار المحافظ نفسه، أو بين الجيلين، القديم والجديد من المحافظين أنفسهم.
ومعلوم أن تنظيم الإخوان المسلمين نشأ منذ عقود ليكون خادماً للدين، إلا أنه، ومع الوقت وتَضخُّمه، صار الدين في خدمة التنظيم، بحيث تحوّل التنظيم من كونه مجرّد وسيلة إلى غاية، بعدما صار الحفاظ على التنظيم وتماسكه هدفاً في حد ذاته، ويمكن قراءة الصراعات القيادية داخل الجماعة، وفقاً لهذا السياق.
تحوّلت جماعة الإخوان إلى تنظيم بالغ الضخامة، أشبه بفيل هائل الحجم، بيْد أنه أعمى وأصمّ، حيث يخلو، بحكم طبيعته الصارمة، من أي آليات للمراجعة والنقد الذاتي، ما يجعله يُعيد إنتاج أزماته الداخلية، فضلاً عن تكراره الأخطاء نفسها التي ارتكبها في الماضي، من دون الاعتبار ممّا كان.
بين حين وآخر، تُستدعى سردية "المحنة والابتلاء" داخل جماعة الإخوان المسلمين، وتستخدمها القيادات "مُسكّناً"، أو بالأدق "مُخدّراً" لقواعد الجماعة، من أجل صرفها عن توجيه أي نقد للأخطاء التي ترتكبها القيادة. وتقوم تلك السردية على ترديد مفردات "وحدة الصفّ" و"المظلومية التاريخية" الواقعة على "الجماعة الربّانية"، وهي تتحوّل، تدريجياً، إلى ترسيخ شعور زائف بـ"الاصطفاء" بالقول إن الابتلاء قدَر الأنبياء والصالحين والعظماء، وبمرور الوقت، يؤدي هذا إلى شعور كاذب بـ"الاستعلاء".
والحقيقة أنه لا يوجد في التاريخ تيار أو حزب أو جماعة في حالة "محنة" على الدوام (!)، وحالة "المحنة المستديمة" التي تعاني منها جماعة الإخوان المسلمين ليست دليلاً على العظمة أو الاصطفاء، كما يزعم بعضهم، وإنّما هي دليل على وجود خلل بنيوي متعدد الجوانب، وعيوب هيكلية في الأسس الفكرية والتنظيمية التي تقوم عليها الجماعة، يحتاج إصلاحها إلى الدخول في عملية نقد ذاتي عميق، والقيام بمراجعات فكرية مُكثّفة لكل أدبياتها القديمة التي ولّى عصرها، من أجل الخروج من "أضابير" التنظيم، بدلاً من الإغراق في سرديات "محنوية" قديمة.
لا شك في أن جماعة الإخوان المسلمين تتعرّض لحملة قمعية عاتية، تستهدف استئصالها مصرياً، وإقليمياً، ودولياً، وتمرّ بأزمة حادة هي الأعنف في تاريخها، لكنّ الخطر الأكبر على الجماعة يكمن في الإصرار على التفكير بالعقلية "التنظيمية" القديمة نفسها، وترديد الخطاب البائس نفسه، القائم على تعميق "المظلومية"، وتجذير "العقلية المؤامراتية"، والاستغراق في "المحنة الكربلائية".
وبمدّ الخط على استقامته، فإن التنظيم يواجه شبح الانهيار، أو التشظّي والانقسام على أقل تقدير، وعندئذٍ، لن تكون نهاية الجماعة بيد أعدائها، وإنما بيد أخلص المخلصين من أبنائها، فقد ولّى عصر التنظيمات الحديدية المغلقة.
وامتدّت آثار الأزمة إلى القواعد الإخوانية، حيث أعلنت مكاتب إدارية انحيازها لطرف في مواجهة الطرف الآخر، كما شهد الصفّ الإخواني موجة من الاستقالات، بالإضافة إلى اشتعال المواقع الإلكترونية الإخوانية وساحة العالم الافتراضي بجدل إخواني ساخن، بين مؤيّد ومعارض لهذا الطرف أو ذاك.
وقد تكون هذه الأزمة الأكبر في تاريخ "الإخوان"، إلا أنها تعكس أزمة أخرى أقدم، تعاني منها الجماعة منذ زمن طويل، لم يتم التعاطي معها بصورة سليمة، فقد خرجت جماعة الإخوان في سياق تاريخي معيّن له ملابساته وتفاصيله، ومنذ نشأتها تعاني من طغيان البعد "التنظيمي" على البعد "التنظيري"، وتغوّل الشق "الحركي" على الشق "الفكري". فمنذ نشأتها، تعاني من "فقر فكري" شديد، فمن يطالع أدبيات الجماعة القديمة يجد هدفها الوحيد هو بناء تنظيم قوي، ومتماسك، وعلى درجة عالية من الفعالية، باستخدام خطاب تعبوي حشدي، يغلب على لغته طابع الحماسة وتجييش المشاعر.
وبمرور الوقت، صارت الفكرة في خدمة التنظيم وليس العكس، حتى صار الحفاظ على التنظيم وتماسكه، وحمايته من الانشقاق، الهدف الأول للجماعة التي صارت أشبه بشخص مصاب بتضخّم "عضلي" وضمور "عقلي" في آنٍ معاً.
واللافت أن الإنتاج الفكري للجماعة توقف تقريباً عند رسائل مؤسسها الأول، ولم يخضع مطلقاً لأي عملية مراجعة، أو نقد، أو تنقيح، على الرغم من مرور عقود طويلة على لحظة ولادته، وكان لهذا الأمر أثر كبير في إصابة الجماعة بـ"الجمود الفكري"، إذ اجتمع في تكوينها الفكري الفقر والجمود معاً، فما زالت الجماعة تقتات على أدبياتها القديمة التي أُنتِجت منذ عقود طويلة، من دون أي محاولة للتجديد. الأمر الذي انعكس على عملية التنشئة الداخلية لأعضاء الجماعة وكوادرها في الوحدات التنظيمية الإخوانية، وهي عملية ذات اتجاه أحادي من أعلى إلى أسفل، وفقاً للهيراركية التنظيمية، والغالب عليها طابع التلقين والتحفيظ، من أجل إيجاد كوادر "تنظيمية" تخدم التنظيم، عبر طاعة أوامر قياداتها.
فالجماعة تهتم، بالأساس، بالتنشئة التنظيمية لأعضائها، على حساب التنشئة الفكرية التي إن حضرت يكون حضورها شاحباً هزيلاً، كما أن المناهج التي يتم تدريسها داخل الوحدات التنظيمية للجماعة تخلط بين عالمي الأفكار والأشخاص، بإضفاء هالة من القداسة على الرعيل الأول للجماعة، وما كتبوه في أدبياتهم، وهو ما يمنع إيجاد أي حوار جاد ذي طابع نقدي لتلك الأدبيات القديمة، وكانت محصّلة هذه العوامل عدم وجود مشروع فكري متماسك للجماعة، بمعالم واضحة، سوى خطاب هوياتي عاطفي، ومجرّد عناوين فضفاضة، يعلوها إطار هلامي.
ويعتمد الصعود التنظيمي داخل الجماعة على معايير "السمع والطاعة"، وتقديم أهل الثقة على أهل الخبرة، حيث تتم الترقية التنظيمية للعضو داخل التنظيم الإخواني بشكل "انتقائي"، وليس "تلقائي"، ولا تكون إلا وفق معايير خاصة، يجب توفرها في الشخص، أهمها مدى درجة ولائه وإخلاصه للتنظيم، ومدى طاعته قياداته.
وخلال تاريخه الطويل، ابتكر التنظيم الإخواني مصطلحات أو"كليشيهات" كبيرة، ذات طابع "ترهيبي تفزيعي" تعكس "النرجسية التنظيمية" من جهة، والتي تعمل، من جهة أخرى، على تحذير أعضاء التنظيم و"تخويفهم" من مغبّة الانشقاق عن الجماعة، وشقّ عصا الطاعة على قيادات التنظيم، وهي تستبطن "تقديس" التنظيم من ناحية، باعتبار أن الجماعة "ربّانية"، و"شيطنة" الخارجين عنها من ناحية أخرى (!). ومن أهم تلك الكليشيهات دأب التنظيم الإخواني على إطلاق صفة "المتساقطين على طريق الدعوة" على الذين انشقّوا عن التنظيم، وخرجوا من عباءته، وكذلك "الجماعة تنفي خَبثها"، والذي يردده العقل التنظيمي الإخواني، كلّما مرّت الجماعة بأزمة، وخرج عدد من أعضائها عنها.
تكمن مشكلة الإخوان المسلمين الحقيقية في التوقّف عند كل ما جاء به مؤسسها، حسن البنّا، بل وإضفاء هالة من القداسة عليه. على المستوى الفكري، ما زالت الجماعة تقتات على الأدبيات القديمة نفسها التي كُتبت منذ عقود طويلة، ولم تخضع لأي تنقيح أو تجديد، على الرغم من أنها خرجت في سياق ظروف تاريخية معينة، تغيّرت تماماً في الوقت الحالي. وعلى المستوى الحركي، ما زالت الجماعة تعمل بالآليات نفسها، والأدوات التي وضعها البنّا من دون إضافة أو تطوير.
وعلى الرغم من حدّتها وعنفها، تأتي الأزمة الحالية داخل "الإخوان المسلمين" خالية من أي أبعاد "فكرية" بين طرفيْها، ولا تتجاوز الدوائر "التنظيمية"، فهي وإن كانت تمثّل، في أحد جوانبها، صراعاً "جيلياً" بين جيلي الشيوخ والشباب، إلا أنه يظل مجرّد "صراع على التنظيم" من أجل الإمساك بزمامه والهيمنة على مقاليده، والانفراد بتوجيهه، من دون أي بُعد فكري أو طرح تجديدي.
في الماضي، كان الصراع داخل الجماعة بين المحافظين والإصلاحيين، إلا أنه بعد ثورة 25 يناير نجح التيار المحافظ في إطاحة الإصلاحيين الذين خرجوا تباعاً، طواعية واختياراً، أو قسراً واضطراراً، ويأتي الصراع الحالي ليكون بين أطياف التيار المحافظ نفسه، أو بين الجيلين، القديم والجديد من المحافظين أنفسهم.
ومعلوم أن تنظيم الإخوان المسلمين نشأ منذ عقود ليكون خادماً للدين، إلا أنه، ومع الوقت وتَضخُّمه، صار الدين في خدمة التنظيم، بحيث تحوّل التنظيم من كونه مجرّد وسيلة إلى غاية، بعدما صار الحفاظ على التنظيم وتماسكه هدفاً في حد ذاته، ويمكن قراءة الصراعات القيادية داخل الجماعة، وفقاً لهذا السياق.
تحوّلت جماعة الإخوان إلى تنظيم بالغ الضخامة، أشبه بفيل هائل الحجم، بيْد أنه أعمى وأصمّ، حيث يخلو، بحكم طبيعته الصارمة، من أي آليات للمراجعة والنقد الذاتي، ما يجعله يُعيد إنتاج أزماته الداخلية، فضلاً عن تكراره الأخطاء نفسها التي ارتكبها في الماضي، من دون الاعتبار ممّا كان.
بين حين وآخر، تُستدعى سردية "المحنة والابتلاء" داخل جماعة الإخوان المسلمين، وتستخدمها القيادات "مُسكّناً"، أو بالأدق "مُخدّراً" لقواعد الجماعة، من أجل صرفها عن توجيه أي نقد للأخطاء التي ترتكبها القيادة. وتقوم تلك السردية على ترديد مفردات "وحدة الصفّ" و"المظلومية التاريخية" الواقعة على "الجماعة الربّانية"، وهي تتحوّل، تدريجياً، إلى ترسيخ شعور زائف بـ"الاصطفاء" بالقول إن الابتلاء قدَر الأنبياء والصالحين والعظماء، وبمرور الوقت، يؤدي هذا إلى شعور كاذب بـ"الاستعلاء".
والحقيقة أنه لا يوجد في التاريخ تيار أو حزب أو جماعة في حالة "محنة" على الدوام (!)، وحالة "المحنة المستديمة" التي تعاني منها جماعة الإخوان المسلمين ليست دليلاً على العظمة أو الاصطفاء، كما يزعم بعضهم، وإنّما هي دليل على وجود خلل بنيوي متعدد الجوانب، وعيوب هيكلية في الأسس الفكرية والتنظيمية التي تقوم عليها الجماعة، يحتاج إصلاحها إلى الدخول في عملية نقد ذاتي عميق، والقيام بمراجعات فكرية مُكثّفة لكل أدبياتها القديمة التي ولّى عصرها، من أجل الخروج من "أضابير" التنظيم، بدلاً من الإغراق في سرديات "محنوية" قديمة.
لا شك في أن جماعة الإخوان المسلمين تتعرّض لحملة قمعية عاتية، تستهدف استئصالها مصرياً، وإقليمياً، ودولياً، وتمرّ بأزمة حادة هي الأعنف في تاريخها، لكنّ الخطر الأكبر على الجماعة يكمن في الإصرار على التفكير بالعقلية "التنظيمية" القديمة نفسها، وترديد الخطاب البائس نفسه، القائم على تعميق "المظلومية"، وتجذير "العقلية المؤامراتية"، والاستغراق في "المحنة الكربلائية".
وبمدّ الخط على استقامته، فإن التنظيم يواجه شبح الانهيار، أو التشظّي والانقسام على أقل تقدير، وعندئذٍ، لن تكون نهاية الجماعة بيد أعدائها، وإنما بيد أخلص المخلصين من أبنائها، فقد ولّى عصر التنظيمات الحديدية المغلقة.