تبلغ قضية الصحافي والكاتب جمال خاشقجي اليوم الثلاثاء، منعطفاً أساسياً مع دخولها الأسبوع الرابع، وقد اختار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاجتماع الأسبوعي، عند الساعة الحادية عشرة والنصف من صباح اليوم بالتوقيت المحلي، لكتلة حزب العدالة والتنمية البرلمانية كي يتحدث باستفاضة عن القضية. وقد قال مساء الأحد: "لأننا نبحث عن العدالة سنعري الحقائق بكافة تفاصيلها، وليس عبر بعض الخطوات العادية فحسب". وأضاف: "لماذا جاء 15 شخصا إلى هنا؟ (حيث تواجدوا بالقنصلية بالتزامن مع وجود خاشقجي)، ولماذا تم اعتقال 18 شخصاً (في السعودية على خلفية الاشتباه بتورطهم في القضية)؟ ينبغي الإفصاح عن جميع تفاصيل هذه الأمور". ووعد الرئيس التركي بأنه سيتحدث "عنها بشكل مختلف جداً الثلاثاء خلال خطابي أمام الكتلة البرلمانية، وسأخوض في التفاصيل حينها".
شكّل حديث أردوغان أبرز دخول تركي رسمي في صلب القضية، كون الموقف التركي الرسمي التزم خلال الأسابيع الثلاثة الماضية بالكتمان الشديد، واقتصرت المواقف غير الرسمية على تسريبات من مصادر متنوعة للصحافة المحلية والعالمية، أو على تصريحات مسؤولين من حزب العدالة والتنمية. ومن الملاحظ أن تصريحات مسؤولي الحزب تعددت بعد إعلان السعودية رسمياً مقتل خاشقجي فجر السبت الماضي، واتسمت بنبرة إدانة عالية. وهو ما يعكس المزاج التركي على مستوى الرأي العام وأحزاب المعارضة التي تضغط على الحكومة من أجل إصدار إعلان رسمي، وتحديد موقف من السعودية بسبب انتهاك السيادة التركية.
اختار أردوغان اجتماعاً برلمانياً حزبياً من دون عقد مؤتمر صحافي، وهذا الأمر طرح الكثير من الأسئلة في أوساط وسائل الإعلام العالمية التي حضرت إلى اسطنبول لمتابعة القضية، ووصل تعداد مراسليها إلى مئات. وكان هذا الجيش الإعلامي الدولي الذي لم يجتمع إلا في الأحداث الدولية الكبرى مثل الاجتياح الأميركي للعراق عام 2003، قد قدم من شتى أنحاء العالم، من الشرق والغرب، من اليابان والصين حتى كندا، وفي كل يوم مر كانت أعداد الصحافيين تتزايد، والجميع ينتظر هنا في إسطنبول سبقاً خاصاً، قبل أن تقديم الرواية التركية والأدلة على الجريمة. وصار من شبه المؤكد خلال الأيام القليلة الماضية أن ساعة إعلان التفاصيل تقترب. وظهرت أكثر من إشارة قوية إلى أن هذا الأسبوع سوف يشهد تفجير القنبلة التركية الكبرى من خلال ما تملكه أنقرة من أدلة على الجريمة. كما قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب ليل السبت الماضي إنه "قد نحصل على إجابات في غضون الثلاثاء"، وهذا يعني أنه تلقّى علماً من طرف الجانب التركي الذي حدّد يوم الثلاثاء لإعلان التفاصيل.
وكان الوسط الإعلامي ينتظر بين لحظة وأخرى أن تقوم النيابة العامة بتقديم بيان حول الجريمة، لكن أردوغان استبق إعلان النيابة العامة لنتائج التحقيق، رغم أن التصريحات غير الرسمية التي جرى تسريبها للصحافة المحلية والعالمية خلال الأيام الثلاثة الأخيرة كشفت عن أمرين. الأول هو، أن الصورة باتت مكتملة حول الجريمة لدى المدعي العام بعد انتهاء التفتيش في القنصلية وبيت القنصل وتحليل كافة العيّنات التي تم رفعها، واستجواب حوالي 25 شخصاً من موظفي القنصلية، الأتراك والسعوديين، وفي الوقت نفسه تسلم نتائج التحقيق السعودي التي جرى التكتم عليها من قبل الجانب الرسمي التركي، لكن أوساطاً إعلامية تركية قالت لـ"العربي الجديد" إنها "لا تخرج عن الرواية الأخيرة التي تم تسريبها إلى رويترز صباح يوم الأحد". والأمر الثاني هو، أن الأدلة التي توصل إليها فريق التفتيش التركي تتطابق مع الصورة التي شكلها المدعي العام.
وجاء خطاب أردوغان بعد مكالمة هاتفية جرت مع ترامب هي الأولى حول الموضوع، وأعلنت وكالة "الأناضول"، نقلاً عن بيان المكتب الإعلامي للرئاسة التركية، أن "الرئيسين اتفقا على ضرورة الكشف عن ملابسات مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي بجميع جوانبها". وتلا ذلك اتصال هاتفي بين وزيري خارجية الولايات المتحدة مايك بومبيو وتركيا مولود جاويش أوغلو، وأفادت "الأناضول" بأن الاتصال تناول تطورات قضية خاشقجي.
وقال مصدر إعلامي تركي لـ"العربي الجديد" إن "هذين الاتصالين يكتسيان أهمية خاصة في مسار قضية خاشقجي، يتجاوز تبادل المعلومات إلى التنسيق حيال التداعيات اللاحقة، وما تنوي تركيا أن تعلن عنه على المسار السياسي للقضية". وأضاف المصدر أن "العلاقات التركية الأميركية تسمح بالتشاور وتنسيق المواقف اللاحقة فيما يخصّ القضية". وأوضح أن "الإخراج الرسمي التركي للقضية يخصّ الرئيس الأميركي إلى حد كبير، ويمسه مباشرة من زاويتين. الأولى هي الوضع في الولايات المتحدة والحملة الكبيرة ضد ولي عهد السعودية محمد بن سلمان. والثانية علاقة ترامب الشخصية ببن سلمان الذي لا يمتلك اليوم سوى غطاء صهر الرئيس جاريد كوشنير".
وأكد المصدر أن "أنقرة مهتمة بأن تكون هي وواشنطن على نفس الموجة بما يخصّ القضية، ولا تريد أن تختلف مع الادارة الأميركية حيال ما يترتب عليها من تداعيات سياسية". وأضاف أن "هناك شعورا لدى إدارة الأزمة من الطرف التركي، بأن موقف أنقرة أقوى من موقف واشنطن في هذه القضية، لأن أوراق القضية لدى الطرف التركي"، لافتاً إلى أنه "كلما زاد التقارب بين واشنطن وأنقرة زاد الضغط على الرياض كي ترضخ لمجريات القضية، وتعترف بكافة التفاصيل، وتتحمل المسؤولية ومحاسبة المسؤولين، مهما بلغت مراتبهم ومواقعهم في الدولة".
ويأتي خطاب أردوغان بعد صدور روايتين سعوديتين، واحدة رسمية تقول إن "خاشقجي قتل نتيجة شجار في القنصلية"، أما الرواية الثانية فتناقض الأولى وتؤكد أن "خاشقجي توفي بسبب اختناقه بعد كم فمه عندما شرع بالصراخ". وأثارت هاتان الروايتان استهجان الوسط الرسمي والإعلامي التركي، غير أن أكثر ما أثار الغضب لدى أنقرة هو التكتم السعودي على مصير الجثة، ومحاولة تسويق رواية تقول إنه "تم تسليمها إلى متعاون محلي تصرّف بها"، من دون إعطاء تفاصيل من حولها، في الوقت الذي تتداول بعض الأوساط احتمال تهريبها إلى الرياض.
ويُشكّل خطاب أردوغان حاجة ملحة على المستوى الداخلي، وأن يتدخل هو شخصياً لإعلان أول التفاصيل الخاصة بالقضية، فهذا يوجه رسالة أولى للرأي العام التركي، الذي ينتظر من الدولة أن تقدم روايتها الرسمية بعد غرق الناس في بحر متلاطم من التسريبات. والرسالة الثانية هي أن "الدولة التركية ستترك للقضاء أن يأخذ مجراه حتى النهاية، ولن تقطع الطريق على التحقيق القضائي الذي سيتابع مجراه"، ولكن التبعات السياسية في هذه القضية هي الأساس، وهي ما استدعى أن يخرج رئيس الدولة كي يضع النقاط على الحروف.
خطاب أردوغان ينقل القضية إلى مستوى جديد، ومن شأن الكشف عن التفاصيل أن يغير طبيعة التغطية الإعلامية، والتي اعتمدت حتى الآن، في صورة أساسية، على التسريبات لبعض وسائل الإعلام الكبرى. وظهر أن إدارة الأزمة اتبعت منهجاً خاصاً يعطي كل يوم تسريبة حصرية ذات وزن إلى وسيلة إعلام دولية، ما يغري هذه الوسيلة بإبرازها وترويجها على أوسع نطاق ممكن. وحازت وسائل الإعلام الأميركية على نصيب الأسد بسبب البعد الأميركي في القضية، واحتلت صحيفة واشنطن بوست الصدارة في ذلك كونها الصحيفة التي كان خاشقجي يداوم على الكتابة فيها.