لمْ نلتقِ كثيراً بعدها، كنتُ ألتقيها في خيالي، وأرسُم على جسدها بضعة عصافير تقبّل بعضها بعضاً، وبضع سنابل تتراقص رقصًا شرقيًّا، وجدرانًا زجاجيّة لا تكشف ما بداخلها، لا لأنها مزودّة بتقنيّةٍ ما، بل لأنّ كلّ ما هو خارجها .. فراغ، وكنتُ أتابعُ حركةَ بؤبؤيها بحذر الأمّ، وأداعبُ شعرها كعاشقٍ خائفٍ من القادم، وأعلّق من عنقي على صدري يدَها، وأذهبُ بها بعيدًا نحوَ بلادٍ لا تعرفها كي لا تهرب، لا أعرفها كي لا أهرب، وكنتُ أشدّها على صدري لتعلَق رائحتُها بثيابي، وأكسرُ الصمتَ بسؤالٍ لم يُسأل، وأعود أمدّ غيومًا تحتَ قدميها لتدغدغَ حلمها بالنزول، قالت إنها تخشى المناطق المرتفعة، ولم أجرؤ على الاعتراف بذلك، قلت: أنا أرضُك، وبلادُك، وسورُك، وجدارُك البلّوريّ، وفكرتك الأولى عن الأمانِ، وأغنيتك التي ستفضّلينها فيما بعد، وشجرةُ أطفالٍ يداعبون ابتسامتك، وحكايةٌ قديمةٌ لا تصلح أن تحكى إلّا على لسانِك، لسانك الذي أطلقَ رصاصةً في أذني حين قال "لا" بخجل.
لم نلتقِ كثيرًا بعدها، كنّا نتواعدُ، وتفشلُ خطّتنا الماكرة في اللقاء، وكانت الغرفةُ التي اعتادت الفوضى تضطرب من الترتيب المفاجئ، وتهيّئ نفسها لشمعٍ لم يُشعَل، النوافذُ تشعر بالسعادة من الداخل لأنّها اختنقت من السجائر التي لم تتحرّك من مكانها، وكنتُ أودّع الغبارَ كما أودّع عشيقةً سريّةً حين تعودُ أمّي إلى البيت، وحين يفشل اللقاء، أخرُجُ، أكره كل ما هو مرتّبَ من أجل شخص لم يأتِ.
أخيرًا التقينا، وآخِرًا، وكانَ لقاء الوداع الذي سيمتدُ لعمرِ جنين، فرشتُ انتظاري المسبق، وجمّعتُ ابتسامات عمرٍ لم أعشه، وحكايا مضحكة، ونقاشًا تاريخيًّا عن الرفق بالحيوان، وجدالًا طويلًا، وأجوبةً لأسئلة توقّعت أن تسألها لأطيل أمد اللقاء، ووقفتُ على النافذة قبل الموعد بساعاتٍ أنتظر قدومها الذي سيتأخّر، رأيتها كيف مرّت من الشارع وهي تمشي ببطء، وكيف تتباطأ أكثر، وتلاعب أطفال الشارع، وتوزّع الابتسامات عليهم، ثمّ دخلت، تحدّثنا قليلًا عن رحيلها، ثمّ ساد الصمتُ.
سافرَتْ، لوّحتْ بيدٍ واحدةٍ دونَ أن تحرّكها، وابتسمتْ دون أن تحرّك شفاهها، ولم تقل أحبُّكَ، ولم تقل انتظرني، وخبّأتْ حرارةَ جسدي في كأسٍ لم تكملْه لأنّه ليس باردًا بما يكفي، تظاهرت باهتمامها بموسيقى الجاز التي أعددْتها للقائنا الأخير، ولم تسأل عن الشموع التي أُشعِلتْ، بل سألت بابتسامةٍ ماكرةٍ: هل بيتُك نظيفٌ ومرتّب هكذا دائمًا؟ أم لأنّك دعوتني؟
(سورية)
لم نلتقِ كثيرًا بعدها، كنّا نتواعدُ، وتفشلُ خطّتنا الماكرة في اللقاء، وكانت الغرفةُ التي اعتادت الفوضى تضطرب من الترتيب المفاجئ، وتهيّئ نفسها لشمعٍ لم يُشعَل، النوافذُ تشعر بالسعادة من الداخل لأنّها اختنقت من السجائر التي لم تتحرّك من مكانها، وكنتُ أودّع الغبارَ كما أودّع عشيقةً سريّةً حين تعودُ أمّي إلى البيت، وحين يفشل اللقاء، أخرُجُ، أكره كل ما هو مرتّبَ من أجل شخص لم يأتِ.
أخيرًا التقينا، وآخِرًا، وكانَ لقاء الوداع الذي سيمتدُ لعمرِ جنين، فرشتُ انتظاري المسبق، وجمّعتُ ابتسامات عمرٍ لم أعشه، وحكايا مضحكة، ونقاشًا تاريخيًّا عن الرفق بالحيوان، وجدالًا طويلًا، وأجوبةً لأسئلة توقّعت أن تسألها لأطيل أمد اللقاء، ووقفتُ على النافذة قبل الموعد بساعاتٍ أنتظر قدومها الذي سيتأخّر، رأيتها كيف مرّت من الشارع وهي تمشي ببطء، وكيف تتباطأ أكثر، وتلاعب أطفال الشارع، وتوزّع الابتسامات عليهم، ثمّ دخلت، تحدّثنا قليلًا عن رحيلها، ثمّ ساد الصمتُ.
سافرَتْ، لوّحتْ بيدٍ واحدةٍ دونَ أن تحرّكها، وابتسمتْ دون أن تحرّك شفاهها، ولم تقل أحبُّكَ، ولم تقل انتظرني، وخبّأتْ حرارةَ جسدي في كأسٍ لم تكملْه لأنّه ليس باردًا بما يكفي، تظاهرت باهتمامها بموسيقى الجاز التي أعددْتها للقائنا الأخير، ولم تسأل عن الشموع التي أُشعِلتْ، بل سألت بابتسامةٍ ماكرةٍ: هل بيتُك نظيفٌ ومرتّب هكذا دائمًا؟ أم لأنّك دعوتني؟
(سورية)