أحمد لمسيّح.. نجمة ملثّمة في الشعر المحكي

28 يوليو 2014
+ الخط -

ما الذي يمتلكه شاعر حتى يكتب الحياة، وهو يكتب عن الموت؟ سؤال يطرح نفسه على قارئ الديوان الأخير للزجال المغربي أحمد لمسيّح "قتلتْني القصيدة"، لكنه سؤال لا يتعبه كثيراً، لأنه يتعثر بالإجابة عليه داخل المتون نفسِها.

"خلّيني يا الموت.. أصاحبي

غير نعترف

نبوح

باللي نت إشاعة

ما بغاتش تموت".

لم يتعامل لمسيّح مع الموت كواعظ أو خائف أو هارب، بل من منطلق الصداقة، حيث يصير الموت شريكه في الصحن والسرير والمكتبة والحديقة والحانة والحمّام، حتى أنه يسأل عنه حين يفتقده، ويشعر بالارتباك حين يجد نفسه "وحيداً" في مواجهة الحياة.

ويتوجّهه هذا، غيّر الشاعر منصّة التلقي في المدونة الزجلية المغاربية، في ما يتعلق بموضوعة الموت، بأن نقّاها من التعاطي الديني/ الدنيوي الجاهز، وصعّدها إلى مقام السؤال الوجودي.

"الموت..

غير علامه

في طريق الحياة".

لا يكتب لمسيّح القصيدة الحالة، بما هي رجفة عاطفية انطباعية، بل القصيدة التي تمتلك رؤيتها للوجود. وهذا ما جعله يساهم، بوعي شعري وفلسفي حاد، في تحرير القصيدة المغاربية المكتوبة باللغة المحكية، من "ملحونيتها" الغارقة في روح التمجيد، والمصادِرة لأسئلة الذات القافزة خارج المساطر المُعَدّة سلفاً، لتحديد مدى التزام الشاعر/القوّال بروح الجماعة/الأمّة.

لذلك فإن الهاجس الأكبر في متونه، هو كيفية الوصول إلى لغته الخاصّة، بعيداً عن هذه المساطر. حيث يرى أن مصداقية الشاعر في أن يخرج "من الكتب القديمة مثلما خرجوا"، حتى وإن أدّى به هذا الخروج إلى الهباء.

"غمّضْ عينيكْ.. سافرْ

شوفْ دْواخْلكْ

تَهْبَا

ما تلقى غير نجمة

ملثّمة بشوفتها

غربة على غربة"

إنه يغرق في ذاته حدَّ إلغائها ("أنا ما كاينش" عنوان مجموعته ما قبل الأخيرة)، وهي ليست سلبيةَ شاعرٍ هاربٍ من تحمّل مسؤولية أن يكونَ "مجنّداً" في مفصلٍ مهمٍّ من تاريخ المغرب المعاصر، بل خياراً واعياً يختبر فيه/به قدرة هذه الذات على التموقع خارج الشعارات المهترئة والأسئلة المتلكئة في الذهاب إلى الوجهة الحقيقية التي تليق باللحظة.

والموت في هذه التجربة الزجلية، كائن يرفض الثرثرة، ويميل إلى الاقتصاد اللغوي. وقد فهم الشاعر هذه النزعة، فاستعان بخبرته في كتابة القصيدة الومضة. إنه التكثيف الذي ينقل الفكرة من مقامها الشفوي الذي يدغدغ الأذن/ العاطفة، إلى مقام النص الذي يشغّل العين، ويبعث على التأمّل.

"يا الموت..

أجي ونسيني

باش تغِير الحياة".

ولئن كان أكبر سؤال يواجه التجربة الزجلية المغاربية ـ إلى جانب سؤال تحديث الخطاب الجمالي ـ هو: ما جدوى الوفاء للقاموس المحلي، في "معركة" التلقي العربي المبرمج على التعامل مع اللهجات المغاربية على أنها مبهمة؟ فإن لمسيّح (1950) استطاع أن يتموقع في منطقة لغوية ذكية، استدعى فيها الوجه الفصيح في اللهجة الدارجة، والوجه العاميّ في اللغة الفصحى، وعجن منهما لغة لا تحتاج إلى ترجمة أو تهميش، مستفيداً من تراث "سلالته" الأندلسية التي حررت الشعر العربي من قبضة النحو/ القاموس، وأسلمته إلى يد الحياة.

"قالت القصيدة: مساء الخير

وعينيها قالو: شكون نتَ؟

ومشيتْ عند الموت

نجيبْ شهادة الحياة".

إن "الرسالة" التي يوجهها صاحب "أنا ما كاينش"، في تجربته الجديدة، هي أنه آن الأوان للقصيدة الزجلية في المغرب العربي أن تنخرط في أسئلة الشعر، إلى جانب انخراطها في الأسئلة الآنية للإنسان المغاربي، منذ كابدته ليتحرّر من الاستعمار، حيث يجد نفسه ـ بعد نصف قرن من الاستقلالات الوطنية ـ إما أن يعيش الحرية، وإما أن يموت.

دلالات
المساهمون