كانت حياة أحمد فارس الشدياق الثقافية والعلمية والشخصية غنية وثرّة، ورحلاته طويلة، وتقلباته كثيرة، انتقل من المسيحية إلى الإسلام، وسمى نفسه في تونس أحمد فارس. هذا اللبناني ابن قرية عشقوت، الذي خرج منها نحو مصر ثم مالطا فتونس، وفرنسا وإنكلترا، ثم إسطنبول، حيث أطلق صحيفته "الجوائب"، أشهر الصحف العربية في ذلك الوقت، هو مثال عن حالة عربية لا تتكرر.
في رحلته "كشف المخبّا عن فنون أوروبا" يحكي رحلته الأوروبية، ويستخلص الوصفة السحرية للتقدم، التي جعلت الأوروبيين يتصدرون الركب في حين تأخر العرب، بعد أن كانت لهم المقدمة في كل شيء.
وهي رحلة تذكر بالرحلات العربية الأخرى التي جاءت بشكل متزامن، أو قبله بقليل، بل إن مجال اهتمامها كان منصباً حول الاجتماع والعمران والفن والثقافة والسياسة والتجارة والصناعة، بما يسهل لصاحب القرار السياسي في البلاد العربية اتباع الخطوة وابتداع ما يشاء من طرق، إن هو قدر على الابتداع والتطوير.
وفي ما كتبه الشدياق أو غيره، وقوف على السؤال الإشكالي الذي طرح في عصر النهضة العربية: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن؟ ومنذ القرن التاسع عشر، تنوعت الإجابات واختلفت وتباينت وتطابقت، وظهرت الاجتهادات هنا وهناك، وتحول المجتمع العربي إلى مختبر تجارب، لم يخرج منه سالماً حتى الآن، بدليل التشوهات التنموية والانتكاسات التي نعيشها في عالم عربي ممزق حدّ التيه.
ما يلفت في رحلة الشدياق، هو هذه المقارنات التي يبسطها بين باريس ولندن، في قراءة مشوقة للمكانين، يبغي من خلالها بسط معرفته، أو استعراضها أمام القارئ العربي في ذلك الزمان، الذي كانت فرنسا وإنكلترا بالنسبة إليه حلماً بعيد المنال.
يقول مثلاً متحدثاً عن باريس ولندن: "أما أثاث الديار وفرشها فالغالب أنه في باريس أنفس وأغلى، وأكثر ما يحمل على العجب منها سررهم التي يرقدون عليها، فإنهم ينضدون عليها عدة من الفرش، حتى إنهم يصعدون إليها على درج وذلك مطرد للغني والفقير، وخشبها في الغالب من النوع الذي سماه الشيخ رفاعة بك الكابلي، ويجعلون فوقها إطارًا من خشب مذهب على هيئة التاج، ومنه يسدلون الناموسية، ولا بد أن يكون في البيت مرآة كبيرة، وساعة دقاقة يضعونها فوق رف الموقد.
وتفضل باريس لندرة أيضًا في كثرة العيون الجارية في الطرق، وفي كثرة الحمامات، وإذا شاء الإنسان أن يستحم في بيته أوعز إلى قيم الحمام في أن يبعث له بمغطس وماء حميم، وهذا يكاد أن يكون معدومًا في لندرة، ومن ذلك الكتابة التي تكون فوق الحوانيت والرواشن، فإن جلّها مكتوب بماء الذهب، وفي لندرة جلّها بالحبر، وإذا كان بماء الذهب فلا يلبث أن يسود، ومن ذلك أبواب الدكاكين والقضبان الفاصلة بين ألواح الزجاج، فإنه هنا أكثر رونقًا، فأما من حيث السعة فدكاكين لندرة أعظم، ومن ذلك الرصف التي على جانبي نهر السين، فإنها مبلطة نظيفة بحيث يمكن للإنسان أن يقعد عندها ويسرح ناظره في النهر، وهو يشتمل على عدة حمامات ومغاسل كالبيوت تغسل فيها النساء ثياب السكان.
ومن ذلك وجود دكاكين أخرى في الطرق للغسالات، فإنك في كل طريق تجد منها واحدًا أو اثنين، وذلك نادر في لندرة جدًّا، وإنما يغسل النزيل ثيابه عند غسالة الدار التي يسكنها سواء كانت نظيفة أو وسخة، وهي غالبًا في الريف، ومن الغريب أن غسالات باريس يغسلن الثياب بالمطارق، وكلٌّ عنهن راضٍ، ومن ذلك أنه يوجد في باريس مواضع يتخلى فيها الإنسان لقضاء الحاجة، ولا يخفى أن وجود ذلك في المدن الغناء ضروري؛ فإن من يخرج من داره ويضطر إلى قضاء الحاجة لم يمكنه الرجوع إليها، وذلك في لندرة معدوم، بل مواضع البول فيها على قلتها قذرة رديئة، ما عدا ما صنع منها حديثًا في طريق استراند وهوبرن، فهي تعز عن النظير".
وفي تفضيله لباريس وجمال طبيعتها وضواحيها وملابس سكانها، يقول: "وتفضل باريس لندرة من حيث النظر لا من حيث الفائدة بكثرة العساكر، فإن فيها وفي ضواحيها نحو مائة وخمسين ألفًا فلا تزال تسمع منهم الموسيقى، وتنظر منهم الملابس الحسنة، وهي أحسن من ملابس عسكر الإنكليز، وقد جرت العادة بأن يكون مع العساكر نساء للخدمة يتبعنهم وهنّ مترديات بلباسهم، أما المعيشة فحيث كانت المطاعم عندهم كثيرة، وكل ما يشتهونه من المأكول والمشروب يجدونه فيها، لم يكن أحد يتكلف الطبخ في بيته، أما أصحاب العيال الذين يكون لهم مطبخ ومحل للمؤنة في منازلهم، فلا ينتابون تلك المطاعم إلا في الأعياد، وهي نظيفة للغاية، وأول ما يجلس المستطعم يأتيه الخادم بدفتر فيه أسماء الطعام وبفوطة، فيختار ما يشاء.
أما في لندرة فحين يجلس أحد في مطعم يأتيه الخادم ويصرخ في أذنيه: «شواء لحم بقر»، «شواء ضأن»، «كرنب»، «جزر»، «بطاطة»، وهنا تنتهي الفهرسة، ولا يقدم له فوطة، وأي مطعم دخلت في باريس رأيت فيه الرجال والنساء والأولاد، وربما تعمدت امرأة أن تجلس قبالتك لتخاطبها أو تعرض عليها شيئًا من المشروب فيكون فاتحة الألطاف وخاتمة المطاف، ولا بد من أن يوضع أمام الآكل نبخات من الكبريت لإشعال السيكار، وخلال لتنظيف أسنانه.
والخاصّة من أهل باريس يأكلون مرتين فقط: الفطور أو الغداء، وهو في الساعة الحادية عشرة، والغداء أو العشاء في الخامسة، ويفطرون على شواء الضأن والمحار، والعامّة يأكلون ثلاث مرات، أما طعامهم فإنه وإن كانوا يتفننون فيه كثيرًا فلا يستطيبه إلا مَنْ أَلِفَه؛ وذلك لأنهم يسلقون اللحم أشد السلق ليتخذوا منه نوعًا من الرعديد، ثم يطبخونه بالشحم بدل السمن فيأتي مسيخًا".
ويستطرد في وصف لذة طعام الفرنسيين وبعض ما تفوق فيه الإنكليز، خصوصاً الشواء، يقول: "وفي الجملة فإنه ألذ من طعام الإنكليز كما ستعرف ذلك في بابه، غير أن الشواء عند الإنكليز ألذّ منه عند الفرنسيس، وهناك طريقة أخرى للمعيشة وهي أن بعض الديار يصنعون مائدة عمومية يسمونها «تابل دوت» أي مائدة الضيوف، فمن شاء أن يأكل فيها لزمه أن يذهب في ساعة معينة، ولعلها أرخص من المطاعم العمومية وأطيب".
مراقبة صحية للأغذية
تستوقف الشدياق عادات الحياة اليومية في باريس وفي لندن، أو لندرة كما يسميها، يكتب "أما القهوة فإذا دخلت محلّها جاءك الخادم بكوب سميك كالذي يشرب فيه الشوربة وبسكر جزيل، وصّب القهوة بمرأى منك، ثم أتبعها بالحليب المسخن، وقد رأيت كثيرًا من ذوي السمت والرواء يضعون نصف السكر في الفنجان ويختبئون النصف الآخر، والمطاعم ومحالّ القهوة في هذه المدينة لا تحصى كثرة، وهناك محالّ للقهوة تغني فيها الرجال والنساء، يدخلها الناس مجانًا، ولكن بشرط أن يشربوا شيئًا يقوم عليهم قيمة شيئين.
ومما يعجب منه في باريس الدكاكين التي يباع فيها المربيات والشراب: وذلك لنظافتها وأنوارها، وربما كانت سقوفها من مرايا، وعندهم من أصناف المربيات والمعجنات والحلويات ما يزيد على ما عند الإنكليز عشرة أضعاف، إلا أنهم مثل الإنكليز في أن حلوياتهم جميعًا معمولة بالسكر لا بالعسل.
واعلم أن أرباب الرئاسة هنا يتعهدون صحة الرعية فيما يباع من المأكول والمشروب، فلا يسمحون للباعة بأن يبيعوا شيئًا فاسدًا أو مضرًّا بالأبدان أو مغشوشًا".
كآبة لندرة
النظافة هي كلمة السر في رحلة الشدياق، ففي فرنسا وإنكلترا اكتشف للكلمة معناها، على خلاف المدن العربية القديمة، التي تعمها القذارة، يكتب "بل البقول والفاكهة هنا أطيب وألذ، فمن ذلك الخبز وهو ألزم ما يكون للمعيشة، فإنه في غاية الطيبة، وهو من محض الحنطة غير مخلوط بشيء من الشب أو البطاطس كخبز الإنكليز، وقد يصنعون منه شكلًا في طول قامة الرجل، واللحم، على أن الإنكليز يدعون بأن لحمهم أطيب، ويعجبني هنا نظافة دكاكين اللحامين، فلا يمكن أن تشم منها رائحة كريهة، بخلاف دكاكين لندرة، وهم يقفلون دكاكينهم قبل أن يوقدوا الغاز، فإنهم يقولون: إنه يغير طعم اللحم.
ومن ذلك الزبدة والجبن ومحار البحر على أنواعه، والزيت والخل والخردل واللبن، وقد يصنعون منه الرائب والقريشة كالموجود في بلادنا سواء، وكذا الصابون والشمع، بل الكبريت وحطب الوقود هنا أحسن مما يوجد بلندرة، وعندهم كثير من البقول والفواكه مما لا وجود له في تلك، فأما جعتهم فغير طيبة، ولكن قلما يشربونها لاستغنائهم عنها بالخمر".
ثم ينتقل إلى وصف مناخ البلدين، فرنسا وإنكلترا، يقول: "فبرد باريس ولندرة صنوان، غير أنه لما كانت الديار كلها مبنية هنا من الحجر وكانت مواقدها غير صالحة لوقود الفحم المعدني كما مر، كان البرد أشق وأبلغ وزد على ذلك توالي الأمطار شتاءً وصيفًا، وقد شاهدت جمًّا غفيرًا حضروا من باريس إلى لندرة، وسألتهم عن الهواء، فكلهم أجاب: بأن المطر لم ينقطع مدة إقامته، وكان فيها بلندرة صحو إلا أن الناس لا يشعرون في باريس بِعَنَت المطر أو الثلج؛ لكثرة ما فيها من السقائف والمنتزهات ومحالّ القهوة مما يذهب بالكرب، أما في لندرة فلن يجد الإنسان من ذلك مهربًا إلا في بيته، وهذا حَسْب".
مديح لباريس وأمكنتها
يطري أحمد فارس الشدياق كثيرًا على باريس، وعلى أمكنتها، التي تجعل حياة الناس أكثر سلاسة وإقبالًا على اغتنامها، يكتب "في باريس عدة مواضع لا نظير لها في الدنيا بأسرها، فإن ابتدرتني لتقطع عليَّ كلامي بأن تقول: «وهل رأيت الدنيا كلها حتى تحكم بذلك؟» قلت: إني لم أرَ الدنيا، بل رأيت محاريث عقول أهل الدنيا، أعني أقلام المؤلفين ممن طوفوا وساحوا في مناكبها، فكلهم حكم لهذه المواضع بالأحسنية والأفضلية.
• أحدها: البلفار، وهو طريق واسع طويل ممتد يحيط بباريس كالمِنْطَقة للخَصْر؛ كلا جانبيه محفوف بالشجر المتوازي الوضع، وبالدكاكين الظريفة والديار الشاهقة، ومواضع القهوة الأنيقة الحافلة، فلا تزال ترى أمامها ألوفًا من الكراسي يجلس عليها الرجال والنساء، وهناك يقرءون صحف الأخبار ويتفاوضون في إدارة المصالح والأشغال، فهي عندهم بمقام المصر، وقد تكون حيطان المحل كلها مرآء، وسقفه كسقف الكنائس مزخرفة منقوشة، وفيها متكآت ومقاعد ومواقد نفيسة، ولا تزال غاصّة بالناس إلى نصف الليل، وقد يكون لها رواشن أو مشربيات فيها مقاعد يرى الإنسان منها جميع ما يمر في الطريق.
وأكثر الملاهي هناك من جملتها مواضع للغناء واللعب، وفي ختام اللعب تضعف أنواره ويبرز في محرابه نساء لابسات بَزًّا رفيعًا على هيئة الجسم ولونه، فيحسبهن الناظر عرايا، ويبقين كذلك في أوضاع مختلفة من دون حركة، فإن برزت إحداهن رافعة يديها بقيت كذلك إلى أن تدور بهن المائدة التي برزن عليها دورتين، ثم يسبل الحجاب وترجع الأنوار، ثم تضعف ويبرزن بهيئة أخرى، وذلك كله يدوم نحو ربع ساعة، ويقال لهذا المنظر: «تابلو فيفان» أي الصور الحية، وأحسن محل في هذا البلفار المحل الذي يقال له: بلفار الطليان، فثم ترى النساء يخطرن بالديباج والإستبرق والشيلان الكشميرية والمحمل والخز الرفيع، وهن متلعات شافنات، والرجال يرنون إليهن بأفخر اللباس وأحسن السمت، وثم أظرف المحال للقهوة، وفي طرف البلفار عمود شاهق من المرمر في قنته تمثال ملك من نحاس واقف على كرة وهو يلمع في مقابلة الشمس له كأنه ذهب، ويقال للملك ملك الحرية، وعلى العمود أسماء الذين قتلوا من كبار الأمة في سجن باستيل، مكتوبة بالذهب، وتحته حوض يُستقى منه، وكان إنشاء البلفار في سنة 1536.
• الثاني: الموضع الذي يقال له: «بالي روايال» أي القصر الملوكي، وإنما سمي كذلك لمجاورته قصرًا كان مقر الملوك، وهو عبارة عن صَفَّيْ دكاكين متقابلين، فوقها منازل ومطاعم وحمامات ومحال للقهوة، وبينهما أشجار وحوض ومقاعد ومماشٍ للناس، ففي الدكاكين ترى أحسن الملبوس وأنفس الحلي والتحف من المعادن والجواهر، وهي وإن كانت دون دكاكين البلفار في الكبر إلا أن حسن تنضيد ما فيها وبراعة ترصيفه وبهجة ذلك المكان يكسبها سعة في النظر.
ومن رأى كثرة الجواهر والألماس في هذا الموضع وفي غيره أيضًا حكم بأن أهل باريس أغنى من أهل لندرة، إلا أن الجوهريين من الإنكليز لا يبرزون ما عندهم من الجواهر في وجه الدكاكين، وإنما يخبئونها في خزانة، فلهذا لا يكاد الناظر يرى عندهم من خارج الدكان غير الذهب والفضة، وفي تلك المطاعم جميع ما تشتهيه النفس، فإذا قعدت للغداء رأيت الرجال والنساء والأولاد يمرحون في تلك الروضة، وصفة الحمامات صفة المطاعم، وفي الروضة أيضًا موضع قهوة عنده كراسي عديدة، بعضها عند الحوض وبعضها تحت الشجر، وثم تضرب العسكر بآلات الطرب ثلاث مرات في الأسبوع، وطول هذه الحديقة سبعمائة قدم وعرضها ثلاثمائة، وكان إنشاء هذا المحل البديع في سنة 1729.
• الثالث: الموضع المسمى «شانزلزي» أي روضة الأصفياء، وهو غيضة طويلة ذات شطرين طولها إلى حد الأزج أكثر من ثمانمائة ذراع، وعرضها في الأقل مائة وستون، ولها مقاعد من خشب، وكراسي على طول جهتي الطريق، وبين الشطرين طريق واسع لمرور الخيل والحوافل والعواجل، ففي أيام الأعياد ترى هذا الممر ملآن من تلك المراكب، فإن أهل الثروة يذهبون إلى هناك متفاخرين بما فوقهم من اللباس، وبما تحتهم من المركوب، وترى النساء في العواجل المفتوحة متكئات كأنما هن على نمارق وفرش، والعجب والتيه يلمعان من جنبهن، وكثيرًا ما تراهن راكبات على هذه الصفة ودخان التبغ خارج من أفواههن.
ومن العجب أن أهل باريس يخرجون إلى هذا الموضع وإلى «بوا دبولون» في أيام الأربعاء والخميس والجمعة من جمعة الآلام قصد المباهاة والمفاخرة فيما يلبسون ويركبون، فهي عندهم موسم التأنق والتظرف، ومع ذلك فإن الجزارين يتحرجون من بيع اللحم يوم الجمعة، إما احترامًا له أو حياءً من الناس، وفي هذه الغيضة «جاردن مابيل» وهو بستان بهيج تنتابه الرجال والنساء للرقص، فيه خمسة آلاف نور، وبستان الشتاء، ولا يمكن أن يكون في العالم بستان أجمل منه على صغره، فإنه راموز الجنة، وفيه عين فوارة يصعد الماء منها علو قامات، وفيها قصر للزهور، وموضع واسع ترمح فيه الخيل، وخيام لا تحصى يباع فيها الشراب والنقل والحلواء، وفيها زمر شتى كزمر باب الرميلة بمصر، فمن بين مشعوذ ومغن وعازف ومحدث ومحنبش وغير ذلك.
وفيها ثلاث قبب مزخرفة ذات بهجة وأنوار، يجلس في كل منها ست نساء أو خمس من القيان الحسان ويغنين على آلات الطرب، وهن كاشفات عن الصدور والأكتاف، ولكن لا يكون ذلك إلا في فصل الصيف، فمن شاء أن يقعد على كرسي ويسمع الغناء لزمه أن يشرب شيئًا من محل القهوة ودفع ثمنه ضعفين، وإذا انتقل من كرسي إلى غيره وجب عليه تجديد الشرب، ومن وقف يستمع فلا تكليف عليه، وهناك من الحياض والتماثيل والملاعب والملاهي والصروح والأعلام ما ينسي الغريب وطنه، وكان غرس هذه الغيضة في سنة 1670، ويقال: إن في باريس ثلاثة عشر ألف شجرة من غرس سنة إلى عشر سنين، وعشرة آلاف شجرة من عشر سنين إلى ثلاثين سنة، وأكثر من أربع وثلاثين ألفًا من ثلاثين سنة فصاعدًا، وغالبها من شجر المَيْس.
• الرابع: الساحة المسماة «بلاس دلاكنكورد»، وهي بين الغيضة المذكورة وبين حديقة التولري، يجوز الناس من هذه إلى تلك ومن تلك إلى هذه، وفي هذه الساحة حوضان كبيران وسع كل منهما خمسون قدمًا، وفيها تماثيل من نحاس تقذف بالماء صعدًا فيقع على شبه جرن عليه تماثيل أربعة أولاد وبطة يخرج الماء من أفواهها، فيلتقي كلا المائين وينحدران إلى الحوض، وبينهما عمود جلب من مصر عليه حروف بلسان قدماء مصر، قال غالنياني: هذه المسلة انتزعت من موضع بمصر أمام هيكل طيبس بمصر الذي بني سنة 1550 قبل الميلاد، واسمها «لكسور» محرفة عن القصر، وكانت إحدى اثنتين جاد بهما محمد علي باشا على دولة فرنسا تذكارًا لألفتهما ومودتهما، والثانية لم تزل في موضعها، ولا بد من أنها تجلب.