أتعرف ماذا فقدت يا صديقي؟

02 ديسمبر 2016
+ الخط -

كان يسألني عن ذاك الهم السابح فوق تجاعيد وجه ما زال في أول أربعيناته، من أين جاء؟ ماذا فقدت حتى ينتابك كل هذا الألم والحزن البادي على وجهك حتى حين يبتسم؟ ماذا رأيت في حياتك التي ما تزال غضة بعدُ، حتى تضحك باكياً، تعيش باكياً، تكبر باكياً؟

ترددت، بماذا سأجيبك يا صديقي. وأنت القادم من خلف تلال خضراء، ما عرفت طعم الغربة، ما عرفت طعم الفقد، ما عاشت الروح ألم نكبة، يوم أن تنكبها النوائب دفعة واحدة.

أأحدثك عن غربتي، أم عن فقدان أبي في أيامها؟ بماذا أخبرك؟ من أين أبدأ معك؟ هل أقص عليك نبأ الذين رحلوا دفعة واحدة، وما تركوا وراءهم سوى غصة في النفوس؟ عن الذين عاشوا أتون الموت تلو الموت تلو الموت؟ قصتنا غريبة، مؤلمة.

عراقي أنا، من وطن كان إذا ما أشرقت الشمس على ربوعه تشعر أنها لا تعرف بلداً غيره. لا أملك الكثير لأقصه عليك. ولكنني أتذكر أني عشت هناك أكثر من 33 عاماً. كلها كانت هناك. وأتذكر أنني من أبوين ما عرفا غيره، ومن أجداد وأجداد ارتبطوا به وارتبط بهم. لا نعرف قبله أين كنا.

الذي أعرفه أنه في تلك السنوات التي تجاوزت الثلاثين، كنت ابن وطن لاسمه هيبة في النفوس، ووقع خاص. يتعكز على تاريخ طويل يمتد لأكثر من سبعة آلاف سنة. ابن حضارة عرفت الحرف الأول. وعرفت القانون الأول واخترعت العجلة. وشيدت جنائن بابل المعلقة التي لا تزال حتى اليوم، تحير الألباب في روعة هندستها وتصميمها.

ما أعرفه أنني وجدت نفسي في وطن البصرة، والكوفة وبغداد وسر من رأى ونينوى. ابن وطن تعلم على يد علمائه العلماء، وكانت بغداد رشيده عاصمة الدنيا، يوم أن كانت الدنيا دنيا، والعالم عالم.

أتذكر أنني جئت من وطن خامرت شعراؤه سكرة نشوى، وهم يعيشون في ظل بحبوحة دنيوية وفكرية. فكان ابنَ عمي أبو الطيب المتنبي، وابن خالتي البعيدة أبو نواس المغامر. بينما كانت تربطني بالرشيد صلة قربى تمتد وتمتد، كوننا كنا نسكن مدينة واحدة.

ذات يوم، قالت لي قصة قرأتها في أحد الكتب. إن ها هنا، في بغداد كانت أول مدرسة نظامية تعلم الطلاب وتصرف عليهم وتسكّنهم. ذهبت إليها. كان اسمها المستنصرية، ما زالت قائمة في بغداد. كانت تحكي بصوت حجارتها وتتذكر، هنا درس العالم الفلاني، وهنا كان ينام ذاك الطالب الذي جاء مغترباً لتحصيل العالم من بلدته كيلان. وفي إحدى الصفوف، كنت أشاهد أطياف علماء يكتبون على ورق بردي حكايات وحكايات، ويدونون لنا... ولكم.

أخبرتني جدتي أن جارتها اليهودية كانت تأتي كل يوم. تدور في حيهم القديم في بغداد. تبيعهم البيض. كانت طيبة، تقول لي. ولكنها كانت شاطرة، تعرف كيف تدفعك للشراء. كانت تحبها، هكذا قالت جدتي.

أما جدي، فأخذني ذات يوم لبستان أخضر. قال لي إن هذا البستان كان لجدّه. كان يزهر ويثمر. كانت هنا شجرة تين، وهناك أخرى للرمان، والعنب والبرتقال. وكلها تستظل في فيء عمتنا النخلة. راح جدي، وراح من بعده بستانه. كأنه مات حزناً عليه، أو علينا. نحن الذين لم نغرس أشجاراً أخرى، لم نفلح في أرضنا.

ذات يوم، وجدتني مطروداً من جنة وطني. خلف الحدود. أركض هارباً. أخشى أن يلاحقوني. أخشى أن يعتقلوني، أن يتهموني بأنني مقاوم. بأنني رفضت الاحتلال. رفضت احتلال وطني. أرض أبي وجدي وبستانه الزاهر.

خلف الحدود، هناك في البعيد، حيث بيني وبينه أميال من ألم ووحشة ودموع، دموع كثيرة، كل يوم تحفر خندقاً آخر بيني وبين أرض جدي.

وحيداً، تركني وحيداً. فقدني، أو فقدته. لا يهم. المهم أنني القادم من خلف تلك الآلام، من بين تلك الأهوال. من خرائب بيوت حنت على أهلها واحتضنتهم حتى لا يقعوا ضحية فرق الموت التي تمثل بهم؛ خرائب أرادت لأهلها أن يموتوا كرماء، بعيداً عن يد الحقد والعبث بأشلائهم؛ فرفضت أن يخرجوا منها.

كان بيت أبو محمد القريب من بيتنا، بيتاً قديماً. سقطت عليه قذائف عدة. في لحظة واحدة، سقط البيت. نام الجميع تحت منزلهم. ناموا باطمئنان. لم يخرجوا. يومها كانت أمي تصيح بي "ولك سافر لا تبقى، جمال قبل كم يوم خطفوه وقتلوه".

وسافرت يا أمي، وسافر معي همي وألمي. وسافر معي وطن بحجم الـ 7 آلاف سنة. بحجم الرشيد، بقامة المعتصم وملويته. سافر معي وطن بحجم سنوات طويلة من الألم، سافر معي وطن مازال ينأى وينأى عني بعيداً.

أتريد أن تعرف يا صديقي ماذا فقدت؟

96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...

مدونات أخرى