أبو نؤاس وأصابعه المسروقة

17 سبتمبر 2018

تمثال أبو نواس في بغداد قبل تخريبه وترميمه

+ الخط -
نقلت الأخبار من بغداد أن مجهولين قاموا بتقطيع وسرقة أربعة أصابع من تمثال الشاعر العباسي، الحسن بن هاني المعروف بأبي نؤاس، في بغداد. أثار الخبر اهتماما عند العراقيين وغيرهم، لشهرة الشاعر والشارع الذي يحمل اسمه ويقع فيه تمثاله. ولأبي نؤاس الذي يعد من أبرز الشعراء في تاريخ الأدب العربي قصص لا تعدّ عن شعره وسلوكه وشخصيته، فقد عرف بأنه شاعر الخمر، حتى أن خمرياته تتربع على عرش القصائد التي قيلت في الغزل بالخمر في اللغة العربية. وعلى الرغم من مثليته الجنسية المعلنة، احتل أبو نؤاس مكانته الكبرى في تاريخ الأدب العربي الذي يميل رواته في العادة إلى إبراز الشعراء ذوي الفروسية والقيم المثالية أو المحافظين على قيم المجتمع بشكل عام. وتعيد سرقة الأصابع، وإن كانت السلطات المحلية قد تداركتها بالتصليح والترميم، طرح مسائل كثيرة، لا عن تاريخ أبو نؤاس المثير للجدل، وإنما عن شارع أبي نؤاس وهوية بغداد ورموزها وواقعها بين التاريخين، القديم والحديث.
يمتد الشارع على ضفة نهر دجلة من جانب الرصافة، وأقيم التمثال، وهو للنحات العراقي إسماعيل فتاح الترك، في قلب الشارع في مطلع سبعينيات القرن الماضي. ويعدّ العراقيون المعاصرون تلك الفترة ذهبية في تاريخهم الحديث، إذ شهدت ازدهارا اقتصاديا واستقرارا سياسيا نسبيا (بمعايير الشرق الأوسط والعراق تحديدا بالطبع). كان الشارع قبل التمثال وبعده شارع اللهو والاسترخاء لأهل بغداد، وكان مقصدا أساسيا لكل من يزور العراق، وخصوصا
الأدباء والشعراء، ففي حضرة شارع أبي نؤاس وتمثاله لطالما اجتمع الشعر والخمر، أما السمك المشوي على ضفاف دجلة بالطريقة العراقية المميّزة (المسكوف) في شارع أبي نؤاس فأشهر من أن يتم الحديث عنه. وفي تلك الفترة، فترة تصالح مجتمعات الشرق الأوسط مع ذاتها، مثل تصالح أبي نؤاس مع ذاته، لم تتوقف العوائل العراقية بنسائها وأطفالها عن الذهاب إلى الشارع، على الرغم من انتشار الحانات وتعاطي الخمر.
جاءت مراحل التوتر بعد ذلك، إذ اندلعت الحرب العراقية الإيرانية لتعطي معاني وأبعادا أخرى للرموز الثقافية والتاريخية. ومما يرويه التاريخ عن تلك الفترة أن الرئيس العراقي السابق، صدّام حسين، قد طرح، في لقاءٍ مع أدباء ومثقفين، فكرة تغيير اسم شارع أبي نؤاس بسبب الأصل الفارسي للشاعر. في ذلك المجلس، في ذلك الزمن الذي كانت فيه أفكار الرئيس وأمانيه أوامر، تحدّث الأديب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، الذي عاش معظم حياته في بغداد وتوفي فيها، معارضا الفكرة بكياسة، قائلا: "أبو نؤاس بغدادي مثلنا". وموضحا أنه كان شاعرا ينظم الشعر باللغة العربية، في وقت كانت تخضع فيه إيران وغيرها لحكم العباسيين في بغداد. وافق صدّام حسين، بحسب الرواية، واستمر الشارع باسم أبي نؤاس والتمثال في مكانه.
جاءت بعدها فترة صعود الإسلاميين مع سقوط بغداد واحتلال العراق، وقد صمد الشارع أمام موجة تغيير الأسماء حينذاك. ولكن تمّت إزالة جزء من التمثال في ظروف غير واضحة، تمثل ذلك الجزء في مائدة تضم أقداح الشراب على بعد أمتار منه تمت إزالتها. كانت سنوات ما بعد 2003 سنوات كساد وإهمال للشارع، خصوصا أن القوات الأميركية أغلقت أجزاء منه سنوات. زمع الانحسار الجزئي للعنف الطائفي والجماعات المتشدّدة، عادت مرابع السهر إلى الشارع، ولكن من غير نكهة السنوات الذهبية.
كانت سرقة أصابع التمثال بغرض بيع مادة البرونز المكونة لها. ولم تكن عملية الاعتداء الأولى التي تعرّض لها التمثال، فقبل سنوات، أزال مجهولون أبياتا من الشعر لأبي نؤاس كتبت على جوانب المنصة التي يجلس عليها التمثال، ثم تم ترميمه، كما قامت السلطات البلدية بترميم الأصابع المسروقة أخيرا. ولكن هذه السرقة جاءت في زمن غريب، فمع صعود المليشيات التابعة لأحزابٍ يُفترض أنها إسلامية، وجد أبو نؤاس نفسه أمام سادة جدد يسيطرون على الميدان. يتحدّث سكان بغداد اليوم الذين يعرفون الشارع والمنطقة جيدا، عن الإتاوات التي يفرضها رجال المليشيات (الإسلامية) على أصحاب الحانات والملاهي الليلية ومحلات بيع المشروبات الكحولية في شارع ابي نؤاس، ومناطق أخرى. جاءت سرقة أصابع أبي نؤاس لتلفت الانتباه إلى ذلك المشهد السوريالي الذي اختلطت فيه السرقة بالفساد بالزيف بضعف دور القانون.
يقبض التمثال بيده اليسرى على كأس من الشراب، فيما تمتد اليد الأخرى التي سرقت أصابعها ثم أعيدت مشيرةً إلى الفراغ. لم تعد منضدة الكؤوس موجودة، لكن إشارة أبي نؤاس بأصابعه الجديدة - القديمة تكاد تقول إن ما شاهده عبر العهود أسكره وأذهله أكثر من كل الأقداح.
4B109260-05A6-4A15-9F69-C3DBE398FBE4
4B109260-05A6-4A15-9F69-C3DBE398FBE4
رافد جبوري

كاتب وصحفي عراقي، مراسل تلفزيون العربي في واشنطن، له مقالات وبحوث منشورة باللغتين العربية والانكليزية، ماجستير في التاريخ المعاصر والسياسة من جامعة لندن.

رافد جبوري