أبو عزيز و"كاسيتات" ضد التقسيم

27 اغسطس 2015
استوقفتني "الكاسيتات" المرتبة على التابلو أمامي (Getty)
+ الخط -
ليس كهلاً ويحب اللون الأحمر، "أبو عزيز" ناهز الأربعة والخمسين عاما، وما زال محركُ سيارته يعدو كأي فرس أصيل في عزه، لم يسْلمْ منه أي مكان بعيد أو قريب في سبيل عمل أو زيارة، و"كيلومتراج" سيارته الحمراء تخطى السبعين ألف كيلومتر بقليل والسيارة لديها حصتها من الترحال أيضا. وبما أن السيارة حمراء فإن أبو عزيز رأى أن تكحيلها واجب فخطَّ عليها من الخلف عبارتين بالخط المائل والعريض.


اقتربتُ منه لأول مرة بعد أن عرفتُ أن في جعبته من الاغتراب أكثر من إحدى عشرة سنة، عرفتُ أنه من الحسكة، قال لي بعد أن ميّز لهجتي الفراتية بأنه جاري من الحسكة ولم يتوقف عن الحديث عن دير الزور فقط ليتذكر ملامحها معي، ولم أتوقف أنا بدوري عن الحديث وإثارة الأحاديث المفرحة والمحزنة لأشبع نهمه المبرر.

لم يترك لي مجالا لأسأله عن سبب بقائه في هذه البلاد كل هذه الأعوام وعدم رجوعه إلى الحسكة لأنه فاجأني بصور ابنه المتوفى والمدفون في مقبرة القرية، أدركتُ بأنه وزوجته قررا عدم ترك ولدهما وحيدا في المقبرة، وإن كانت مليئة بالزهور والأحجار الرخامية الملساء.

في بيته الصغير تلفزيون قديم لا يفارقه فيديو لعرس ابنته، في أحد مشاهد العرس يغنى فيه باللغة الآشورية، وتحت التلفاز ترتمي أشرطه الـ "VHC" التي لا يسعكَ إلا أن تستغرب وجودها أصلا في أي بيت، أنت الذي لم ترها منذ أن غزت التكنولوجيا كل بيت واحتلتْ كل ذراع.

عندما ركبتُ في سيارة أبو عزيز استوقفتني "الكاسيتات" المرتبة على التابلو أمامي، ذكرتني بثروة "الكاسيتات" التي تركتها تحت سريري قبل أن أخرج من سورية منذ أربع سنوات ونيف، أخذتُ أقلبها بتأنٍّ وأسأله عن محتواها فأخذ، وهو يقود، يجيبني عنها تباعا مارّاً على مطربي المحافظات السورية كلها وأنا أضحكُ كلما أضاف اسما جديدا على مسامعي، كأنه يدغدغني، منتهيا بذكر "كاسيتات" العراقي واللبناني والآشوري والتركي.

في أحد الصباحات أخذنا أبو عزيز في زيارة بعض الأصدقاء في مدينة مجاورة، كنا نتحدث عن الأخبار التي تُشيْعُ دخولَ الجيش التركي إلى سورية وأخبار عن تقسيم سوري وشيك، وكأي سوريين في البلاد البعيدة تبرع كل منا برؤيته للمستقبل القريب البعيد، هذا ما نستطيع على كل حال، أما أبو عزيز فانتبه إلى أن أحد رفاقنا كان من الأكراد فتناول من التابلو "كاسيتا" شفافا ودكّهُ في المسجلة، وقبل أن تصعد الموسيقى إلى ذروة سلمها الوسيقي استنكر ابو عزيز حديثنا وقال لنا انظروا ها نحن في سيارة واحدة سوريون من الشمال إلى الجنوب نستمع إلى أغنية كردية لأجل صديقنا فهل تصدقون أن سوريتنا ستتقسم حقا!

(سورية)
المساهمون