في بلدة الصرفند جنوبي لبنان، ما زالت عائلة آل خليفة تُحافظ على مهنة صناعة الزجاج بعدما توارثها حسين خليفة وأشقّاؤه عن أبيهم محمود، وقبله عن جدهم عبّاس، وطوّروها. رغم ما تتطلّبه هذه الصناعة من مهارات وتقنيات قد يستغرق تعلّمها نحو خمس سنوات. على أنّ أهمّ متطلّبات العمل في هذه المهنة، تحمّل المشقة أمام الفرن، إذ تصل درجة حرارته إلى أكثر من 1400 درجة مئوية، والقدرة على الإبداع والتفنّن.
الأشقاء خليفة يعملون في صناعة الزجاج اليدوي، خالقين فضاءً فنياً من لغة الزجاج "المنفوخ" بعبقرية حسين وأشقائه الستة. وحدها تلك البلورات المزركشة بألوان الأرجوان ومعها الأباريق الخزفية والمناضد والكؤوس الزجاجية الملوّنة تبوح بوجود حرفة هي في الأصل "فينيقية"، تعاند إلى اليوم الاستسلام للانقراض رغم غياب كلّ مقومات "البقاء".
وحده الزجاج يتكلم، وحده الجمال الملوّن يلتقط أنفاس "نفخات" محمود الذي توهّج وجهه من حرارة الفرن البدائي المصنوع من حجارة الآجر والمخصّص لتذويب الزجاج. فيحاول محمود أن يلتقط كتلة نارية لزجة بواسطة عصا، ويحوّلها في دقائق إلى جرّة مزخرفة.
يقول وهو ينفخ بحذر في العصا المضادة للتأكسد: "جميع أفراد عائلتي تعلّموا هذا الفنّ منذ الصغر. إنه يحتاج إلى قوّة وصبر وتحمّل شدّة نار الفرن، فضلاً عن الدقة والاتقان، وتعلّمه يتطلب وقتاً طويلاً، أي أنّه يحتاج إلى فريق عمل متكامل ولا يستطيع فرد وحده القيام به وحيداً".
عاشت هذه الحرفة عصراً ذهبياً حين كان هناك سباق محموم على تعلّمها. في معمل الصرفند كان هناك نحو 40 معلماً، بعضهم من مصر وسورية. بل كان هناك تنافس محتدم بين المعامل آنذاك... أما اليوم فقد تبدّلت الصورة. التنافس غاب عن الساحة، وحلّت مكانه علامات "الانقراض"، إذ باتت الحرفة "معلماً سياحياً" يستقطب السياح للتعرّف إلى جمالية الزجاج الملوّن. ولم يبقَ في المعمل إلا ستة معلّمين من عائلة خليفة فقط.
كيف يتمّ نفخ الزجاج؟ ما هي العدّة المعتمدة؟ والمراحل التي يمرّ بها حتى يتحوّل إلى تحفة غاية في الجمال؟ وكيف يتمّ تسويق ما ينتجه المشغّل اليدوي؟
أسئلة تقتحمك وأنت تعرج خلسة على مصنع آل خليفة للزجاج في بلدة الصرفند الجنوبية، داخله تعيش عبق حرفة الزخرفة الفنية الزجاجية التي تعتمد بشكل أساسي على أسطوانات الأوكسجين، وأنابيب الغاز، وجهاز ضغط الهواء، ومشعل للنار يستخدم لصهر الزجاج، إضافة الى الأداة الحديدية اللازمة للتشكيل، التي تختلف بأنواعها وأحجامها، ومجموعة من الأدوات النحاسية التي تستعمل لصبّ الزجاج لدى انصهاره، والملاقط للتحكم بالقطع أثناء التشكيل وقسطل النفخ.
يشرح حسين خليفة عملية صنع الزجاج: نذوّب الزجاج في الفرن "الآجري" المؤلّف من غرفتين يفصل بينهما قاطع يتسرّب من تحته الزجاج السائل النقي ليصبح سائلا مخمّراً جاهزاً للتّصنيع بواسطة النّفخ بأنبوب من الحديد الفولاذ "المزيبق"، وبعدما يلوّح في الهواء ندخله إلى الفرن ونخرجه مرّات عدّة لتشكيله و"قولبته".
يجلس خليفة على كرسي خشبي ويروح ينفخ في عجينة الزجاج ويطوّعها لتتّخذ شكل فخارة من زجاج بلون الأرجوان، ويشرح مجددا: "نصبغ القطع بالمواد الأوكسيدية، وكلّ مادة تعطينا لوناً مختلفاً، وأكثر لونين مطلوبين حاليا الأحمر والأصفر، وصناعة الزجاج تجعل الحرفي يبدع في الابتكار. يطوّر الموديلات والتصاميم والنماذج، وغالبا ما يأتي الزبائن بابتكارات معيّنة لينفذها الحرفي، ومنذ فترة أدخلنا القواعد الحديدية في صناعتنا بشكل يتناسب مع ذوق الزبون، وهذا ما يميز عملنا عن غيرنا، فنحن نبتكر أفكارا وتصاميم جديدة، وندرك أنّ التحدي الذي يواجهنا كبير".
عند تخوم المصنع يقع محترف العائلة. هناك تتوزّع المزهريات الملوّنة ذات الأشكال الهندسية المتناسقة: صحون وكؤوس وزجاج النرجيلة وتحف تخطف الأبصار.
المعلم حسين الذي يبدو التعب على وجهه يتحدّث بحرقة: "إقفال المصنع يعني زوال الحرفة نهائياً. وهذا ما نرفضه. لن أستسلم، لأنّه يعزّ علينا أن نرى إرثنا يذوب كما يذوب الزجاج، لكنّه ليس بوفاء الزجاج، إذ لا يتمدد إرثنا ولا يتّخذ شكل البقاء. لكن لا خيار أمامنا غير العمل في تصنيع الزجاج التقليدي، وإلا نجوع".