"يا عمري"

تظهر هنريات على الشاشة الكبيرة، وهي في عمرٍ متقدّم جدا، تكاد هي نفسها لا تصدّقه. فحين يسألها حفيدها، وهو مخرج الفيلم هادي زكّاك، عن عمرها، تجيبه، من بين ما تجيب به، إن من غير اللائق أن تُسأل امرأةٌ عن عمرها. وحين يُطلعها أنها تجاوزت المائة بسنتين، تصرخ مصدومة غير مصدقة: "102 وبعدني طيبة؟".
تنسى هنريات، والنسيان هنا كأنه من النعم النادرة لشيخوخةٍ تعرّينا شيئا فشيئا من تاريخنا وعلاقاتنا وذكرياتنا، لتبقي لنا القليل القليل من نكهة حياةٍ عشناها، وبقي طعمُها تحت اللسان يشبه مذاقَ شيءٍ نعرفه، ولا نقدر على تحديده.
تنسى هنريات كمن يغفو، وحين يذكّرها حفيدها بصوته الصارخ في أذنها، المردّد تفاصيل وأسماء مما مضى، ومما كانت قد أخبرته إياه، ودوّنه صغيرا على دفتر، تستفيق، فتضحك أحيانا، وتندهش أحيانا أخرى، ولا يوائمها ألبتّة أن تتذكّر، لأنها، كلما انتعشت الذاكرة واستعادت أمرا، بكت، مدركةً فجأةً أن حياتها كلها باتت حفنة ترابٍ ذرّرها الهواء، وأنها ماضيةٌ، لا محالة، بخطىً بطيئة وثابتة، نحو مزيد من الانطفاء.
وكمن يريد أن يعوّضها عن هذا الاختفاء التدريجي لكل ما كانت عليه، وعاشته يوما، يضع هادي زكّاك صورة جدّته هنريات في وسط الشاشة، ولا يحيد عنها، كأنه بجعلها دائمة الحضور، واضحةً تماما وسط ضبابية ما يحيط بها من ديكور أو أشياء، يعيد إلى جدّته أهميتها، حضورَها، هي التي سترشدنا لقطاتٌ وصور أخذت في مراحل مختلفة سابقة من عمرها، إلى ما كانت عليه. فهذه السيدة التي باتت اليوم كهلةً أكل دودُ النسيان ذاكرتها وعاث فيها، عاشت قرنا بأكمله، بسنواته وساعاته ودقائقه، بتحولاته وأحداثه وتغيّراته، بأفراحه وأتراحه، هي التي جاءت من البرازيل إلى حيث هاجرت في أواخر القرن التاسع عشر، في زيارةٍ قصيرة إلى لبنان الثلاثينيات، بعد أن وعدت أباها وأقسمت بألا تبقى وبأن تعود إليه، إلا أن الظروف جعلتها تُغرم بالشاب أنطوان، فبقيت وتزوجت وأنجبت، ثم ندمت بعد حين على عودتها إلى وطنها الأم، كما أخبرت حفيدها.
وعلى الرغم من إرادة الحفيد إظهار هنريات كما كانت عليه أيضا، أي كما لم تعد، وما ليست عليه الآن، فإن رغبةً كبيرةً تتملّك المُشاهد بألا تحيد الكاميرا عنها إلى لحظاتٍ أخرى سابقة، مضافة، حيث نراها في يومياتها وفي أعياد ميلادها، مبقيا على راهنها الحالي، على فراغ أيامها توقّعه وجباتٌ تطعمها الخادمة إياها، وزياراتُ أبناءٍ لا تخطئ في التعرّف إليهم، شاهقةً شهقتها لرؤيتهم، مختنقةً بذكرى ابتعادهم وغيابهم عنها: "ما عدتم تحبونني".
لا تنسى هنريات حين يأتون إليها لتذكيرها. تتذكّر ابنتها. ثم تتذكّر هادي حفيدها. وتتذكّر ابنها روبير، وتعاتبه باكيةً، لأنه لم يأت إلى زيارتها منذ فترة. تناديه باسمه أكثر من مرة، وهي، بمناداته وبترداد اسمه، تقول الكثير عن شوقها، وعن خسارتها، وعن عجزها ووحدتها وعزلتها في شيخوختها المتقدمة داخل جسدها الواهن المتهالك، المتهادي على حافة الموت.
وإذ ينتهي المخرجُ من واجب إطلاعنا على ماضيها، يترك لها كل الأمر. فإذا بها متجلّية في لحظات اختلائها بنفسها، في كنبتها تسرّح شعرها الأبيض بمشطها الأزرق، أو في سريرها تتغلّب على سيجارةٍ تتلاعب بين أصابعها عصيةً على الإشعال. وفي المرحلة الأخيرة، غائرة الملامح، مطفأة، صامتة، مطوية الجسم، محنية الرأس والرقبة، كأنها الالتماعة الأخيرة لشمسٍ شارفت على الغياب.
وإذ تغيب هنريات عن عمر 104 سنوات، يُجلس المخرج كاميرته في المكان الذي فرغ منها، فيُظهره ساكنا، هامدا، كأنما ليقول إن سيدته التي بقيت تشغله، طوال سنوات عمرها، ستبقى ذكراها هنا لتشغله، ربما بعدُ إلى حين.
______________________________________
"يا عمري" الوثائقي السادس والعشرون من كتابة هادي زكاّك وإخراجه. من أعماله الأخرى "لاجئون مدى الحياة" (2006)، "درس في التاريخ" (2009) ، "مرسيدس" (2011) و "كمال جنبلاط، الشاهد والشهادة" (2015).