"واجب" .. جماليات الخشونة

01 يونيو 2020
+ الخط -
متعةٌ تمازجها مرارة وغصة في الحلق، لا بد أن تعتريا متابع أحداث الفيلم الفلسطيني "واجب"، إخراج آن ماري جاسر وبطولة محمد بكري بالاشتراك مع نجله صالح بكري. يزيح النص، منذ اللقطة الأولى، غلالة الوهم عن صورة الوطن المستلب، ويتخلص من اللغة الإنشائية المحشوة بالمبالغات اللفظية التي تحيل الوطن إلى فكرة رومانسية ساذجة بعض الشيء، ويقدّم الحقائق كما هي، بلغةٍ خشنةٍ باردة لا تخلو من حياد، غير أنها موجعة وحارقة وصادمة لفرط واقعيتها. تدور أحداث الحكاية في شوارع مدينة الناصرة المحتلة، حين ينهمك أبو شادي (محمد بكري) بتوزيع بطاقات الدعوة لحفل زفاف ابنته، مصرّا على القيام بالمهمة بنفسه، من باب الواجب والاحترام للمدعوين من الأهل والأصدقاء، وهو المعلم المحبوب الذي قضى حياته في الناصرة، ولم يرغب بمغادرتها قط. يرافقه في أداء المهمة ابنه شادي، المهندس المعماري القادم من إيطاليا لحضور زفاف شقيقته. 
استثمرت المخرجة بذكاء فضاء السيارة المتجولة بين بيوت المدعوين وتم تصوير مشاهد كثيرة في داخل السيارة التي صارت مقر إقامة جبري للرجل وابنه، ما اضطرهما إلى مواجهة خلافتهما القديمة، والعميقة حول كل شيء، فتجلى في الحوارت الطويلة الممتدة حجم الصراع بين الأجيال. الأب التقليدي المحافظ على التقاليد، المتعايش مرغما مع واقع الاحتلال باعتباره قدرا مكتوبا، والابن شادي، الثوري الرافض سلبية والده في تعاطيه مع الأعداء الصهاينة، المنتقد للمظاهر القبيحة في مدينته العريقة، الإهمال والقذارة المكدسة في الشوارع، وغير المتحمس لمنظومة العادات والتقاليد التي ما زالت تحكم العلاقات بين الأفراد. يعبر شادي، في أكثر من مناسبة، عن غضبه من تخاذل والده وضعفه، على الرغم من مقدار الحب الذي يجمع بينهما.
يصطحبنا الأب وابنه إلى بيوت المدعوين، من بيوت الناصرة العتيقة، لنتعرّف على نماذج إنسانية وقصص مختلفة، عبر الخوض في تفاصيل كثيرة، أضافت إلى فضاء الفيلم مصداقية وواقعية. وقد أبدع محمد بكري في تجسيد شخصية أبو شادي المركبة، على الرغم من بساطتها الظاهرة. فلسطيني نصراوي تقليدي، يعيش أكثر من حالة خذلان على المستويين، العام والشخصي. شهد في طفولته فصول هزيمة 1948، وضياع البلاد. هجرته زوجته من أجل رجل آخر، وهربت بصحبته إلى أميركا. تركته وحيدا مواجها الفضيحة في مجتمعٍ مسيحي متدين، محافظ ومغلق، فتراكم فيه الغضب والحرج والإحساس بالظلم، لتصبح ملامح أساسية في شخصيته. وقد تحمل مسؤوليات تربية ولديه اللذين أصبحا في مرحلة الشباب، الفتاة على وشك أن تزفّ إلى شابٍّ تحبه، تحاول استيعاب نزق شقيقها المتململ في زيارته القصيرة، المتجاهل رغبة والده في البقاء في الوطن، وقد رتب حياته في إيطاليا، غير قادر على تحمّل القهر والعجز اللذين عبرت عنهما المخرجة، في مشهدٍ في مطعم شعبي، تناول فيه الأب وابنه وجبة الإفطار، قبل الانطلاق في جولتهما الطويلة، حين التقت نظرات شادي الحانقة بمجند إسرائيلي، بادله نظرات تحد وازدراء، وعندما استهجن وجود هؤلاء في المكان، يفسر الأب باستسلام وسخرية سوداء مريرة: "لجماعة بحبو الفلافل تاعنا".. يختنق شادي من واقع مدينته المتراجع، الخاضعة لقوانين الاحتلال العنصرية الجائرة بحق أبناء المدينة الأصليين. ولعل مشهد حادثة دهس الكلب الإسرائيلي والهرب خشية التعرّض لعقوبة شديدة يلقي الضوء على معاناة عرب 1948 مع ظروف الاحتلال الجائرة في دولة العنصرية والكراهية والحقد.
يمكن القول إن "واجب" يبدو فيلما فقيرا، بل ومتقشفا من الناحية الإنتاجية، غير أنه حصد جوائز عديدة في مهرجانات سينمائية عالمية، وترشح لجائزة أوسكار عام 2018 عن فئة الأفلام الأجنبية ممثلا عن فلسطين. وقد فوتت المخرجة آن ماري جاسر فرصة ثمينة لاستثمار هذا النص الرشيق والذكي. يتضح ذلك من المستوى الضعيف المتدني لكادر الممثلين المشاركين، المكون من مجموعة كومبارس مساندين للبكريْن، الأب والابن. وكان في وسعها الاستعانة بممثلين محترفين، قادرين على تقديم نماذج إنسانية أكثر عمقا وتأثيرا. ومع ذلك، وعلى الرغم من هنات طفيفة هنا وهناك، يظل "واجب" إضافة قيمة للسينما الفلسطينية، وهو المتضمن جماليات وتفاصيل عديدة، ويجمع بين العمق والبساطة في آن ... فيلم جدير بالمشاهدة في جميع الأحوال.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.