"نوفي ساد"، مدينة الشعر

08 سبتمبر 2015
تكوين لأنريكو برامبوليني
+ الخط -
نزاعات يوغوسلافيا، مذابح البوسنة والهرسك، والديكتاتور سلوبودان ميلوسوفيتش، هذا ما يتبادر إلى أذهاننا حين يُذكر اسم صربيا، هكذا تأخذ الحضارات شهرتها من مآسيها، حين يَصنع الإعلام صورة مشوّهة عن البلدان مختصراً إياها بنكباتها، وهو ما يحدث اليوم في سورية، فقد أصبحت جنسية السوري في أي مكان من العالم معنونة بالحرب.
تبدو صربيا شاسعة لا تحدّها سوى السماء، بلاد مسطحة تغلب عليها الغابات، وكأنها لسُكنى الشجر لا البشر، يقطعها نهر الدانوب متمايلاً كحيّة وسط الغابة. يخبرني السائق عن صعوبة العيش هنا رغم جمال الطبيعة "لقد رحل الديكتاتور ميلوسوفيتش وجاء بعده الضعفاء، اليوم يحكمنا نيكوليتش، وهو رئيس بلا رئاسة". يردد ونحن نغادر "بلغراد" متجهين إلى "نوفي ساد"، حيث أقيم المهرجان الأدبي العاشر الذي يضمّ ستين كاتباً، نصفهم من صربيا والنصف الآخر من جنسيات مختلفة، بدعم من عدة مؤسسات رسمية وخاصة، قراءات شعرية استمرّت لأربعة أيام نهاية شهر أغسطس/ آب الماضي.
عقدت معظم القراءات في ساحة صغيرة، يعلوها قوس مزخرف وسط المدينة، بين أبنية تشبه في نمطها أبنية باريس التي تعود إلى بدايات القرن العشرين. قرب الساحة، كاتدرائية "الكرسي العظيم"، التي بُنيت على أنقاض كنيسة دُمرت خلال الثورات الأوروبية في عهد الملكة ماريا تيريزا.

الشعر بلغاته، الشعر مترجمًا
نستمع إلى القصائد باللغات الأصلية ثم يقرأها المترجم. يمرّ الناس بمشروباتهم وحقائبهم، يتوقفون إذا لفتتهم عبارة من قصيدة، يصفّقون للشاعر ثم يرحلون. الشعر جزء من جمال هذه المدينة التي تشبه لوحة فنية. وبينما كان الشاعر الفرنسي "إيمانويل موس" يقرأ قصيدة عن عمر الخيام، اقترب مني منظّم المهرجان الشاعر الصربي "جوفان زيفلاك"، أشار إلى ثلاث فتيات توقفن قرب الساحة لدقائق ثم رحلن. سألني لماذا لم يبقين وإن كنت أعلم إلى أين سيذهبن، ليتبعهن.
خُصّص اليوم الثاني للاحتفاء بالشعر الفرنسي. ففي صربيا، كما في العالم العربي، لا نكاد نعرف أحداً من الشعراء الفرنسيين الجدد. لكن في السنوات العشر الأخيرة نشطت عملية ترجمة الشعر بين الصربية والفرنسية. ولعلّ انتشار الشعر الفرنسي وانفتاحه على الثقافات الأخرى، ينقذه من الاندثار في عصر انحدار الفنون وسيطرة رأس المال. في اليوم الثاني أيضاً، عُقد حوار حول الشعر والحرب، كانت فكرته أن الحرب انتهت في أوروبا، لكنها لم تزل مشتعلة في أماكن شتى من العالم. نحن نعيش حرباً عالمية لم تتوقف منذ مئات السنين، غير أن الشعر لم ينضب من العالم أيضاً، ونحن هنا لنسجل موقفاً، هذا ما قاله "جوفان".

اقرأ أيضاً: غياب العرب عن "روتردام للشعر" ..إقصاءٌ متعمد أم سهو؟ 

الساحة ليست بعيدة من "الدانوب"، وكان لا بدّ من زيارته هرباً من الأجواء الرسمية. حركة الزوارق المتجهة من فيينا إلى رومانيا واليونان والبلقان لا تتوقف. وفي الجانب الآخر من النهر نشاهد قلعة أثرية ضخمة، إذ حاول العثمانيون دخول "نوفي ساد" في القرن التاسع عشر لكنهم لم ينجحوا.
يبدو الناس متحفظين مع الغرباء في هذه المدينة التي لا يتجاوز تعداد سكانها 400 ألف. تتشعب أصولهم بين مجرية وجرمانية وروسية وأنغلوساكسونية. لكنها الساعة الثانية صباحاً، والمدينة يملأها الشبّان والفتيات بأغانيهم وأحاديثهم. هنا لا تُغلق الحدائق والبارات في سائر الأيام، فالصرب يُحيون الليل كما يحيون النهار، وأجسامهم القوية تعشق المتعة عشقها للعمل.
"نوفي ساد" ليست بعيدة من الشرق بتراثها، ففي المتحف الوطني تُعلّق الأزياء التقليدية التي تشبه تلك التي كانت ترتديها النساء السوريات والفلسطينيات منذ مئة عام. وثمة مقتنيات أثرية تخص مختلف بلدان أوروبا؛ سكاكين حجرية وأوانٍ ضخمة من المعدن والفخار كانت تستخدم لصناعة النبيذ في القرن السابع عشر. نَولٌ ضخم قضبانه من جذوع الشجر، قربه لوحة لإحدى المعارك، نشاهد فيها السيوف قبل أن تدخل في الأجساد البيضاء، وكأن المعركة ما زالت مستمرّة. وفي آخر المتحف هيكل عظمي لامرأة شابة من القرن الثالث بعد الميلاد، يبدو شديد الصغر، لكننا نرى في فكه ما يشبه ضحكة ساخرة، وبجانبه ميزان حجري من القرن نفسه لم يتغيّر شكله، كما لم يتغيّر الشَّوان الموضوع في زاوية المتحف.
"شعر الشرفة" كان عنوان القراءة في آخر أيام المهرجان، مساءً؛ وُضعت مكبرات الصوت في أعلى بناء وسط المدينة، ليصل صوت الشاعر إلى كلّ أبنائها. قرأنا قصائدنا من شرفة البناء من دون ترجمة. كانت اللغة العربية التي لا يفهمها أحد هنا ذات موسيقى محببة، راح الناس يقرعون كؤوسهم وهم يهتفون بحياة الشرق.

شعر المواجهة
في منتصف الليل، خُتم المهرجان بـ"شعر المواجهة"؛ Slam poetry. وزّعت في إحدى المقاهي الشعبية الضخمة، أوراق بألوان عدة على الحضور، كل لون يعني عدة نقاط للشاعر، وللمستمع أن يُصوّت كما يحب. قرأ ثمانية شعراء صرب قصائدهم بطريقة مسرحية. هذا الشعر يمثل الرفض والسخرية وحياة "الصعاليك"، وقبل أن يبدأ عزف الراب، أمسك منظّم النشاط بكتفي قائلاً إن شعب صربيا أخٌ للشعب السوري.
في طريق العودة إلى المطار، قال السائق إن عشرات السوريين يصلون يومياً إلى صربيا بطريقة غير شرعية قادمين من اليونان، ليذهبوا إلى ألمانيا وهولندا وفرنسا، يعبر معهم عشرات الشبان الصرب بحثاً عن عمل. لكننا نرى صربيا بلاد عبور للذاكرات والفنون أيضاً، ليس بسبب موقعها الجغرافي وسط أوروبا فقط، بل لتاريخها المعقّد الذي تمتزج فيه حضارات شتى. صربيا شبه غائبة عن وسائل الإعلام العالمية اليوم، إذ لا حرب تدور هناك، كما كانت بلادنا غائبة دائماً، ثم حضرت مع حضور الحرب، ولأن أجمل الأحداث لا تتصدّر نشرات الأخبار، ومنها مهرجان الأدب في "نوفي ساد"، فلا بد أن نذكرها، ونتذكر البلاد بها.
المساهمون