07 أكتوبر 2024
"نداء تونس" والعدالة الانتقالية... العرق الدسّاس
شهدت مناقشة ميزانية هيئة الحقيقة والكرامة في تونس، قبل أيام، وقد ترأستها الحقوقية سهام بن سدرين، بمناسبة مناقشة ميزانية الدولة لسنة 2017 موجة من التهجم عليها، وعلى أعضاء الهيئة تحت قبة البرلمان، وصلت إلى ما يشبه المحاكمة، على حد قول النائب من حزب نداء تونس، علي بن سالم، الذي لم يمنعه انتماؤه لهذا الحزب من الانتصار إلى عدالة القضية، فلقد اعتدى بعضهم من أولئك النواب على عادل المعيزي (شاعر)، وهو العضو المكلف بالتوثيق تحديداً.
يندرج ذلك في سياسة ممنهجة، يتم إحكام التخطيط لها، إذ تم في الأسابيع القليلة الماضية تعبئة الرأي العام التونسي من مختلف قنوات الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي ضد الهيئة، وذلك بترويج جملة من الأفكار ذات الصلة أحياناً بالهيئة وبعض الخلافات داخل أعضائها التي وصلت إلى حد الاستقالة أو الإقالة لأسباب عدة، تتعلق، حسب بعض هؤلاء، بالحوكمة وأسلوب إدارة سهام بن سدرين الهيئة ومواردها البشرية. أما الذريعة الأهم التي استندت إليها الحملة الشرسة، فهي "خطورة" العدالة الانتقالية نفسها، فقد جاءت تلك الجلسات، حسب رأي هؤلاء، "لتثير فتنة بين التونسيين وتغذّي مشاعر الحقد مجدّداً"، بل ذهب بعضهم إلى القول إن هذه الجلسات جاءت لخدمة أجنداتٍ سياسيةٍ، يقف وراءها الإسلاميون وأقصى اليسار في حملات انتخابية مبكّرة.
استعرت هذه الحملة، منذ بدأت، قبل شهر تقريباً، الجلسات العلنية للاستماع لشهادات الضحايا أو أهاليهم، إلى حد أنها وصلت إلى ما يشبه المحاكمة الشعبية. وكان غياب الرؤساء الثلاثة عن الجلسات بمثابة الإشارة المحفزة للحملة.
يعتقد بعضهم أن أطرافاً سياسيةً بعينها تستثمر العدالة الانتقالية فيما تصبه في حسابها السياسي
الخاص. لا يمكن أن ننفي هذا الاحتمال، وهو وارد في ظل التنازع السياسي بشأن طبع الذاكرة الجماعية والاستيلاء عليها. ولكن حتى ولو أقررنا بهذه الانحرافات الواردة، فذلك لا يبيح مطلقاً اتخاذ هذا ذريعة لصرف النظر عن معرفة الحقيقة، حتى ولو عانق الضحية الجلاد، إذ لا يعني التوافق الجاري حالياً، إذ سلمنا بنزاهته طي صفحة الماضي، ما لم نعرف حقيقة ما حدث خلال أكثر من ستة عقود تقريباً. يتوهم بعضهم، حين يعتقد أن التوافق السياسي بين زعيمي "نداء تونس" (رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي)، و"النهضة" (راشد الغنوشي)، سيكون بديلاً عن مسار العدالة الانتقالية الذي يقتضي إتمام جميع مراحله. لا شك أن تلك الرحلة ستكون ملآنة بالمطبات والعقبات والألم، لكنها ستكون أفضل بكثير مما لو طوينا الصفحة، وتقابل الخصوم في عناق طويل، من دون معرفة ما حصل أصلاً، فالمسالة لا تعني خصمين تعاركا في الشارع، فيما يشبه فتوات البلطجة اليومية التي غمرت فضاءاتنا، بل ذاكرة شعبٍ بأكمله، مازالت لم تتعاف بعد.
قد يتخوّف بعضهم من أن تكون معرفة الحقيقة، بما فيها من مخاطر التوظيفات، خدشاً للجروح التي لم تندمل بعد. ومع تقديرنا هذه المخاوف، فإننا نحتاج التذكير بوظيفة العدالة الانتقالية، وهي المهمة التي أناطها القانون بالهيئة، أي السعي إلى معرفة الحقيقة، وتفكيك منظومة الفساد والاستبداد، وليس التشفّي من مرتكبي تلك الانتهاكات، وصولاً إلى المصالحة الوطنية، تتويجاً لهذا المسار ذاته.
فعلى خلاف ذلك، تم تشويه ملف العدالة الانتقالية، حتى جلد الضحايا ثانية، إذ تم تصويرهم تجار دماء ودموع. علينا ألا ننسى، في حمى خلافاتنا السياسية الضيقة، أن مئات المفقودين ما زال أهلهم وذووهم لا يعرفون مصائرهم، بل يتحدث بعضهم أنهم دفُنوا تحت الجسور وفي الطرقات السريعة، حيث أكلتهم خراسانات الإسمنت المسلح، أحياء وأمواتاً.
أثبتت أحدث الإحصائيات المنشورة أن 70% من التونسيين يقفون إلى جانب كشف الحقيقة،
ومعرفة تلك الانتهاكات، باعتبارها من تاريخ بلادهم، فتلك الجلسات العلنية كانت مهمةً في اعتقادهم، لأنها كشفت عن جانبٍ مظلم من تاريخ البلاد، كانوا يجهلونه كلياً أو جزئياً، وأن ذلك لا يؤجّج رغبات التشفي، فالبلاد لم تسجل مطلقاً، وهي في أوج ثورتها، وحتى في أقسى لحظات الانفلات الأمني والفوضى، حادثة تشفٍّ واحدة. علينا جميعاً أن نثمّن هذا، وعلى أعداء العدالة الانتقالية أن يتذكّروا ذلك جيداً، ويستحضروه حتى يتم المضي بشجاعةٍ إلى آخر محطات هذا المسار، فقد يكون ذلك ما أحدث "الاستثناء التونسي".
بانسحابهم من الجلسة المخصصة لمناقشة هذه الميزانية، وتهجمهم على الهيئة ورئيستها، إلى حد محاولة الاعتداء على أعضاء في هيئتها المديرة، يثبت نواب حزب "نداء تونس"، مرّة أخرى، معاداتهم مسار العدالة الانتقالية، لأنهم يعرفون قبل غيرهم الحقيقة، وهي أن حزبهم المتناسل من رحم التجمع الدستوري الديموقراطي متورّط حتى النخاع في العقود الستة من تلك الانتهاكات الجسيمة، وأنهم لا يريدون تحمل المسؤولية التاريخية، ولا يقبلون بالاعتذار، بل إن بعض قياداتهم يتبجح بأن ذلك كان فائض وطنية. ينبئنا العرق الدسّاس أن القادم لن يسلم بالضرورة من تواصل أشكال تلك الانتهاكات، حتى ولو كان لنا دستور يضاهي، في جلاله وبهائه، كتب السماء.
يندرج ذلك في سياسة ممنهجة، يتم إحكام التخطيط لها، إذ تم في الأسابيع القليلة الماضية تعبئة الرأي العام التونسي من مختلف قنوات الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي ضد الهيئة، وذلك بترويج جملة من الأفكار ذات الصلة أحياناً بالهيئة وبعض الخلافات داخل أعضائها التي وصلت إلى حد الاستقالة أو الإقالة لأسباب عدة، تتعلق، حسب بعض هؤلاء، بالحوكمة وأسلوب إدارة سهام بن سدرين الهيئة ومواردها البشرية. أما الذريعة الأهم التي استندت إليها الحملة الشرسة، فهي "خطورة" العدالة الانتقالية نفسها، فقد جاءت تلك الجلسات، حسب رأي هؤلاء، "لتثير فتنة بين التونسيين وتغذّي مشاعر الحقد مجدّداً"، بل ذهب بعضهم إلى القول إن هذه الجلسات جاءت لخدمة أجنداتٍ سياسيةٍ، يقف وراءها الإسلاميون وأقصى اليسار في حملات انتخابية مبكّرة.
استعرت هذه الحملة، منذ بدأت، قبل شهر تقريباً، الجلسات العلنية للاستماع لشهادات الضحايا أو أهاليهم، إلى حد أنها وصلت إلى ما يشبه المحاكمة الشعبية. وكان غياب الرؤساء الثلاثة عن الجلسات بمثابة الإشارة المحفزة للحملة.
يعتقد بعضهم أن أطرافاً سياسيةً بعينها تستثمر العدالة الانتقالية فيما تصبه في حسابها السياسي
قد يتخوّف بعضهم من أن تكون معرفة الحقيقة، بما فيها من مخاطر التوظيفات، خدشاً للجروح التي لم تندمل بعد. ومع تقديرنا هذه المخاوف، فإننا نحتاج التذكير بوظيفة العدالة الانتقالية، وهي المهمة التي أناطها القانون بالهيئة، أي السعي إلى معرفة الحقيقة، وتفكيك منظومة الفساد والاستبداد، وليس التشفّي من مرتكبي تلك الانتهاكات، وصولاً إلى المصالحة الوطنية، تتويجاً لهذا المسار ذاته.
فعلى خلاف ذلك، تم تشويه ملف العدالة الانتقالية، حتى جلد الضحايا ثانية، إذ تم تصويرهم تجار دماء ودموع. علينا ألا ننسى، في حمى خلافاتنا السياسية الضيقة، أن مئات المفقودين ما زال أهلهم وذووهم لا يعرفون مصائرهم، بل يتحدث بعضهم أنهم دفُنوا تحت الجسور وفي الطرقات السريعة، حيث أكلتهم خراسانات الإسمنت المسلح، أحياء وأمواتاً.
أثبتت أحدث الإحصائيات المنشورة أن 70% من التونسيين يقفون إلى جانب كشف الحقيقة،
بانسحابهم من الجلسة المخصصة لمناقشة هذه الميزانية، وتهجمهم على الهيئة ورئيستها، إلى حد محاولة الاعتداء على أعضاء في هيئتها المديرة، يثبت نواب حزب "نداء تونس"، مرّة أخرى، معاداتهم مسار العدالة الانتقالية، لأنهم يعرفون قبل غيرهم الحقيقة، وهي أن حزبهم المتناسل من رحم التجمع الدستوري الديموقراطي متورّط حتى النخاع في العقود الستة من تلك الانتهاكات الجسيمة، وأنهم لا يريدون تحمل المسؤولية التاريخية، ولا يقبلون بالاعتذار، بل إن بعض قياداتهم يتبجح بأن ذلك كان فائض وطنية. ينبئنا العرق الدسّاس أن القادم لن يسلم بالضرورة من تواصل أشكال تلك الانتهاكات، حتى ولو كان لنا دستور يضاهي، في جلاله وبهائه، كتب السماء.