العيّاشي زمّال... المُترشّح السجين
يتابع الرأي العام التونسي تطوّرات محنة المُترشّح للانتخابات الرئاسية التي تعقد بعد ثلاثة أسابيع تقريباً. جاء العيّاشي زمّال إلى السياسة متأخّراً، جرفته رياحُ الثورة وألقت به في لجّ السياسة وفوران حقلها، حين كان الحقل تقريباً غير مُسيَّجٍ، يدخله من يريد من دون أن تنتابه هواجسٌ ومخاوفٌ. اقتحمه الهواة والمحترفون والمناضلون والمتسلّقون والفارّون من العدالة، وهو أمر طبيعي تمرّ به جميع الشعوب التي عاشت مراحلَ انتقالية. كان حزب نداء تونس الذي شُكِّل على عجلٍ للتصدّي لمشروع حركة النهضة، وأخطارها المُتوهَّمة، هو الفضاء الذي التقى فيه جمعٌ غفيرٌ ممّن ينتمون إلى مشاربَ أحياناً متناقضة، غير أنّ ما يجمعهم هو "التصدّي لمشروع النهضة"، كان عليهم أن يخلقوا العفريت، حتّى يلهوا فيما بعد بمطاردته. وفعلاً، كان لهم ذلك، عوض أن ينهمك الفرقاء في بناء تجربة الانتقال الديمقراطي التي تحتاج الجميع، وأن يتفرّقوا شيعاً غير مكتفين بالخصومات السياسية، بل تعادوا عداءً مقيتاً.
كان الحقل السياسي، الذي تشكّل بعد الثورة، مُغرياً بكّل المقاييس، وهو الذي حرّر الجميع، وجعل النضال السياسي بلا تكلفة؛ لا خوف ولا هم يحزنون. بإمكان أي "مناضل" أن يرتكب جميع المخالفات الممكنة، وحتّى بعض الحماقات، من دون خشية على حرّيته، حتّى وصل الأمر إلى تعنيف السياسيين وتعطيل المرافق العامّة. لقد رأينا زعماءَ أحزابٍ وأقطابَ معارضة يعتصمون لمنع مرور قطار، أو لقطع طريق، أو بسبب الماء أو الكهرباء، أو لغلق مستشفياتٍ... إلخ. في هذا الحقل السياسي، الذي رُفِعت فيه الأسيجة دخل العيّاشي زمّال حزب نداء تونس، لا أحد يعرف له ماضياً سياسياً ما عدا تسريبات أنّه كان عضواً في حزب التجمع الدستوري، الذي حكم به الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وحُلَّ بقرار قضائي بُعيد الثورة.
ارتقى زمّال بسرعة في سلّم المناصب السياسية، وساعدته مكانته الاجتماعية والاقتصادية
ينتمي زمّال إلى محافظة سليانة، وهي جهة داخلية محرومة، استعملها بن علي رمزاً لما عاد يُعرف فيما بعد "بمناطق الظلّ". زارها في بداية عهدته، وأطلق من إحدى قراها الصغيرة (الزواكرة والبرامة) مبادرته "الصندوق الوطني للتضامن"، الذي عرف بـ 26 - 26، لإعانة الفقراء والمحتاجين، وتنشيط عُرى التضامن، قبل أن يتحوّل بعد الثورة رمزاً للفساد والزبونية. نشأ زمّال بقرية المنصورة، وهي على قرب أميال من تلك المداشر (الأحياء)، غير أنّه كان متميّزاً في جُلّ مراحل تعليمه، وهو من وسط عائلي متواضع الموارد. يذكر هو هذا في إحدى خطبه إلى الشعب التونسي، حين يُذكّر متفاخراً بأنّه "ابن المدرسة العمومية". كان متفوّقاً أيضاً، حتّى في تعليمه العالي إلى أن تخرَّج مهندساً في الكيمياء، لم ينتظر أن يلتحق بالوظيفة العمومية (كان ذلك متاحاً)، قبل أن تُغلَق أبواب التوظيف العمومي بشكل يكاد يكون نهائياً، ففضّل التوجّه إلى عالم المشاريع والاستثمار، وإلى تأسيس مشاريعه الخاصّة في التصنيع الغذائي، وتثمين المواد الغابية، والأعشاب الطبية، متوجّهاً إلى التصدير للأسواق الخارجية، حتّى كبرت جُلُّ مشاريعه، إلى أن جاءت الثورة، فاستهوته السياسة، وربّما كانت له منها فوائد رمزية أيضاً، إذ أضاف إلى جدارته المشاريعية والمالية واجهة سياسية. اختار حزب تحيا تونس (إحدى تفريعات حزب نداء تونس)، الذي كانت له خلال فترة الانتقال الديمقراطي شعبية كبيرة، نافس بها غريمه حركة النهضة، في حين ظلّ الجنوب حضانة لـ"النهضة"، لأسباب عديدة. ترأّس في تلك المدّة النيابية اللجنة البرلمانية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، التي حاولت المساهمة في التصدّي لموجة كوفيد - 19، التي ضربت تونس بكلّ قسوة.
ارتقى بسرعة في سلّم المناصب السياسية، وساعدته مكانته الاجتماعية والاقتصادية في صعوده السريع، فبعد هذه المدّة القصيرة انتُخِب نائباً في مجلس الشعب في انتخابات 2019، وهو البرلمان الذي حلّه الرئيس قيس سعيّد، بعد انقلابه يوم 25 يوليو (2021). ظلّ العيّاشي زمّال بعيداً نسبياً عن الأضواء، خصوصاً في مشهد طغت عليه الصراعات الحادّة بين الكتل البرلمانية، التي لم تخلُ من ملاسنات ومشاحنات عطّلت (بين حين وآخر) سير أشغال المجلس. كانت كلّها تبريرات استغلّها سعيّد لغلق مجلس النواب بدبّابة، ستظلّ محفورة في ذاكرة التونسيين، غير أنّ وسائل التواصل الاجتماعي عادت، أخيراً، إلى البحث في أرشيف الرجل (زمّال) السمعي والبصري، لتكتشف بعض المواقف، منها تصدّيه للعبث الذي كانت تأتي به نائبة البرلمان آنذاك، وزعيمة الحزب الدستوري الحرّ، عبير موسى. والغريب أنّ الخصمين حالياً في السجن تلاحقهما تهم عديدة جُلّها سياسية. فالأولى متهمة بثلب الهيئة الانتخابية، في حين يُحاكم الثاني بتهم تتعلّق بتزوير التزكيات الانتخابية. ينفي الاثنان هذه التهم كلّها، خصوصاً أنّ معارضي الرئيس لم يسلم أحد منهم من الاتهامات.
لم يرتقِ العيّاشي زمّال إلى صورة المُترشّح السجين وهو يفتقد إلى حزب سياسي قوي يسنده
لم تستطع الحملة الانتخابية تعبئة الرأي العام للمشاركة الواسعة في هذه الانتخابات، مع افتقادها أي رهانات انتخابية. كما بدت جهود الهيئة في تعبئة المواطنين ضعيفة، خصوصاً في ظلّ تفادي جُلّ القنوات الإذاعية والتلفزية الخوضَ في الشأن السياسي، والانتخابات خصوصاً، منذ الانقلاب، ما صحَّر المشهد الإعلامي نهائياً، فتحولت جُلّ القنوات واجهة لمختلف أشكال الإشهار والتسويق لأدوات الطبخ والتجميل في ساعات الذروة، التي كانت البرامج السياسية طوال عشرية الانتقال تستمرّ فيها إلى ساعاتٍ عديدة. في ظلّ هذه الحملة الباهتة والتضييقات، التي طاولت المُرشَّح السجين زمّال، علاوة على بعض عيوب أعضاء فريق حملته، لم يرتقِ الرجلُ بعد إلى صورة المُترشّح السجين خصوصاً، وهو يفتقد إلى حزب سياسي قوي يسنده، فحتّى "عازمون"، حركته التي أسّسها في يونيو/ حزيران 2022، لم يشتدّ عودُها بعد.
ثمّة أمثلة عديدة لرؤساء غادروا السجن مباشرة بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات، ليلتحقوا بقصر الرئاسة، ولكن تبدو الحالة التونسية عصيّة على هذا السيناريو. يثير المُترشّح السجين تعاطفاً مهمّاً أخلاقياً ومفيداً، وقد يتحوّل قوّة انتخابية إذا توفّرت شروط ذلك.