"موانئ مغلقة، صفحات مفتوحة": الكلمة كآخر مأوى

26 أكتوبر 2019
من اليوم العالمي للهجرة في روما، 2019 (غروغور غالاسكا)
+ الخط -

في الثامن من الشهر الحالي، قُدِّم كتاب "موانئ مغلقة، صفحات مفتوحة"، وهو عمل من تأليف طلاب "مختبر الكتابة الإبداعية الجماعية والهجينة"، المشروع الذي ترعاه منذ عشر سنوات جمعية "إكس & ترا" الثقافية، بالتعاون مع "جامعة ألما ماتر" في بولونيا والكاتب وو مينغ 2 (اسم مستعار للكاتب الإيطالي جوفانّي كاتّابريغا، عضو المجموعة الثقافية وو مينغ Wu Ming، ومؤلف الرواية الوثائقية "تيميرا" Timira مع الكاتب الصومالي عنتر محمد). كان الهدف من هذا المختبر خلق مسارات للاندماج الشخصي والجماعي، وكذلك الثقافي واللغوي، خاصة أن المختبر لا يقتصر على المهاجرين من الجيل الأول والثاني، بل يضم إيطاليين أيضاً.

اشترك في تقديم الكتاب كل من فولفيو بيتساروسّا، الأستاذ المشارك في علم سوسيولوجيا الأدب في جامعة بولونيا، وماورو ألبرتو ماوري، رئيس جمعية "إلتيرو" الثقافية.

جمعية "إكس & ترا"، التي ترأسها الصحافية روبرتا سان جورجي، كانت أول من أسهم في بزوغ أدب المهاجرين في إيطاليا عبر مسابقة أدبية سنوية بدأتها في عام 1996، وما زالت مستمرة حتى الآن، وتمكنت من اكتشاف مواهب كثيرة بين المهاجرين من الرعيل الأول، من بينهم: الشاعر كاظم حيدري (ألبانيا)، وغابرييللا غيرماندي (إثيوبيا)، وكوصّي كوملا-إيبري (توغو)، وليللي أمبر ليلى وديع (الهند)، وطاهر لعماري (الجزائر)، وكريستينا علي فرح (الصومال)، ونجوك نغانا (كاميرون)، وسارة زهرة لوكانيتش (كرواتيا)، ومعين مديح مصري (فلسطين)، وناتاليا سولوفيوفا (روسيا) وغيرهم.

والتجربة التي طُوِّرَت في المختبر، تهدف في الواقع إلى الجمع بين الكفاءة في تدريس اللغة الإيطالية والأدوار النشطة في الحياة المجتمعية والفضول الفكري لطلاب الجامعة الذين يواجهون العرض النادر للكتابة الإبداعية وتسليط الضوء عليهم، وكذلك الترحيب بالطلاب الذين ينضمّون إلى هذه الورشة بدافع الشغف، وتشكيل حصص بمسارات وأعمار وملامح مهنية متنوعة. وقد أثبت هذا المختبر أن تجارب التعايش الفكري تساعد في القضاء على الصور النمطية التي تفقد مغزاها لدى سرد الأشخاص تجاربهم الحياتية.

"لقد قررنا الحفاظ على التسمية القديمة لتمازج الثقافات، ونحاول التفكير في اختفاء "الآخر" في الحبكة السردية"، يقول بيتساروسّا في افتتاحية الكتاب - وأن يجعل هؤلاء الكتّاب من موضوع قصصهم، الفرضية الرائعة التي توحّد كل الحبكات: ماذا سيحدث إذا اختفى الأجانب؟ سؤال مستمد من تجربة الإضراب الجماعي "يوم بدوننا"، للبرهان عما ستؤول إليه إيطاليا من دون إسهام العمالة الأجنبية في نهضة البلاد اقتصادياً وثقافياً وديموغرافياً".

ويضيف: "في هذه الأثناء، تغيّرت الحكومة، لكننا نعتقد بالكاد أنها ستغيّر موسيقاها جذرياً، تلك الموسيقى الجنائزية التي تزداد حدّة على حدود الجمهورية. وبالتالي، ستتكرّر المشكلة مرة أخرى العام المقبل، ومرة أخرى سيتعيّن علينا أن نسأل أنفسنا: كيف يمكننا الحفاظ على مختبرنا مختلطاً وعابراً للثقافات، في أمة لا تزال تنعم في ثراء تراثها، وفي كراهية المختلف".

والمختبر يعتبر دليلاً للطلاب المدفوعين من غايات وطموحات تقلب ضمور الفكر رأساً على عقب، وتحرر الهجرة من قوالبها الاعتيادية وتؤهلها لدور مركزي في هيكلية المجتمع، في اتجاه معاكس لأصحاب مشاريع الخوف، وولوج مسارات سردية يدعمها الفضول ويميزها التعاطف مع الآخر.

وحسب المشرفين على الورشة، فقد جرى تصوّرها في خضمّ الصراع المتهوّر ضد سفن المنظمات غير الحكومية، وهي السفن الوحيدة التي تكافح من أجل الحفاظ على بقايا المشاعر الإنسانية المترسّبة في البحر الأبيض المتوسط، الذي تحوّل منذ أعوام التسعينيات إلى مقبرة شاسعة يهوي إلى أعماقها، في زمن الرؤية الكاملة، الغرقى والناجون. موضوع الموانئ المغلقة كان إلزامياً تقريباً للمختبر المتعدّد الثقافات لنقل الواقع إلى الكتابة السردية، في حالة نادرة لضمّ وجود الآخر بين أصوات تريد في أعماق نفوسها أن تروي، وتكمل معاً، ذات الحكاية، ابتداءً من أوليس إلى الإنسان المعاصر الرازح تحت وطأة العولمة، أو بالأحرى التنافس الوحشي لرؤوس الأموال.

مفارقة مأساوية أم كابوس يكرر نفسه في إطار سرد مثالي؟ سؤال ربما تكرّر أكثر من مرة في أذهان الكتّاب، قبل أن يكتشفوا، من خلال كتاباتهم، القدرة والإرادة على معارضة مصير تقرره سياسات قاسية المنهج والفكر، إلا أنهم – هؤلاء الكتّاب الذين يطرقون أبواب المستقبل برؤوس أقلامهم – يعتقدون أنه تمكن مواجهتها أو تثبيطها بالاعتماد على تأملات حساسة ومستنيرة، تهدف إلى إخفاء الأفعال المدمرة وتمديد فترة الانحرافات الهمجية للخيال بجرّة قلم.

في قصة "جيجي سائق التاكسي"، التي اشترك في كتابتها كل من التونسية ونس فرحات، والصيني وانغ ييفي والإيطالي بييترو باتّاليا، نكتشف مزيجاً من الأحاسيس والمشاعر التي تحاذي الميلودراما، لكن دون أن تحيد عن وجهتها الأصلية، أي نقل الواقع من دون التباس عبر عيون آلاف المهاجرين الذين اضطروا إلى مغادرة البلد بعد صدور القانون الأمني الثاني الذي أراده وزير الداخلية السابق ماتيو سالفيني، ورغبة يوسف، المغربي العجوز، برؤية شيء جميل في المدينة التي عاش فيها لسنوات طويلة دون أن يعرف عنها شيئاً. سيكون جيجي، سائق التاكسي، دليله، ليجد نفسه هو أيضاً ضحية ذلك القانون التعسفي الذي سلبه خطيبته القادمة من إحدى دول أوروبا الشرقية. حينها يتذكّر بألم لافتة كان يرفعها أحد المتظاهرين: "نحن لا نتظاهر من أجل الأجانب، بل من أجلنا".

إن مثل هذا المنطق الثنائي، أكان شعبوياً أم محض عنصري، يتعلق بالنهج الذي يمسّ أسطورة الأجنبي، منقذ اقتصاد المجتمعات الهرمة، وينتهي به الأمر إلى تحديده ككبش فداء أمام أي اشتداد للتباين الجدلي بين الأطراف، واستغلال الجميع على قدم المساواة، دون الحاجة إلى أدلّة ثابتة في فعالية التخطيط. وعلى الرغم من انحراف السلوك العام تجاه المهاجرين، تبقى تلك الكتابات جرحاً في الإنتاج الثقافي للأمة المضيفة، مع تميّز واضح في التجديد اللغوي والسردي من قبل هؤلاء الإيطاليين "الجدد".

"لقد أصبحنا كلنا لاجئين في هذا العالم المتخبّط، يرفضوننا بوابل من الكلمات على بوابات الحدود، نتشبث بالأمل، ونبدأ مع مطلع كل شمس البحث عن قصة يمكننا اللجوء إليها لئلا نغرق، فبعد كل هذه المآسي، باتت الكلمة ملاذنا ومأوانا الأخير!"، هذا ما يقوله عنتر محمد على لسان بطلته في الرواية آنفة الذكر.

دلالات
المساهمون