رغم التوّجه الأكاديمي العالمي منذ عقود إلى تدريس التاريخ بوصفه علماً إلى جانب تخصّصات العلوم الاجتماعية والإنسانية، فإن الالتباسات لا تزال تصاحب كتابة التاريخ ومنهجياته، بفعل تدخّلات السلطة الدائمة في تدوينه، وما يتبعها من شبهات تحوم حول آليات اشتغال المؤرّخ وانحيازاته.
إشكاليات متعدّدة وقف عندها المشاركون والمتدخّلون في "ملتقى مواجهة تاريخ الأدب"، الذي نظّمته "مؤسّسة عبد الحميد شومان" و"مؤسّسة سلطان العويس الثقافية"، يومي أمس وأول من أمس، في عمّان، تركّزت بعضها على إعادة قراءة التاريخ العربي بمعزل عن تناقضات تشوب سردياته المتوافرة وتحكيم منهجيات البحث العلمي وتخليصه من الخرافات العالقة به قروناً.
تداولت النقاشات، كذلك، العلاقة الجدلية التي حكمت الأدب والسرد بالتاريخ، وما تفرّع عنها من مغالطات لا تزال تحكم نظرتنا إلى تاريخ الأدب وفق انزياحات رسم أغلبها مستشرقون عند دراستهم له منذ القرن التاسع عشر. غير أن الملاحظة الأبرز تبدو قاسية؛ حين ننظر إلى عدم تماسك معظم أوراق المتحدّثين المقدّمة في مقاربة أطروحاتها بعمق، مقابل غنى كثير من التعقيبات في نهاية كل جلسة.
كانت الجلسة الافتتاحية الأكثر إثارةً، في اليوم الأول؛ إذ جمعت محسن جاسم الموسوي، أستاذ الدراسات العربية في "جامعة كولومبيا" الأميركية، والباحث البحريني حسن مدَن. الأول تشتّتت تنظيراته في ورقته المعنونة بـ"تحولات في مفهوم التاريخ، التاريخانية الجديدة، والتاريخ كسرد"؛ إذ لم تتّضح أفكاره حول هذه التحوّلات وتلك التاريخانية الجديدة. لكن ما قدّمه عن التاريخ كسرد بدا لافتاً في استحضار كتاب "الحوادث" الجامعة الذي يُنسب، بلا توثيق مؤكّد، إلى المؤرّخ العراقي ابن الفوطي (1244 - 1323) الذي يُقال إنه أرّخ لأحد المفاصل الأساسية في التاريخ العربي متمثّلاً في احتلال بغداد على يد هولاكو عام 1258.
المؤلَّف جرى تحقيقه في القرن العشرين، وفق الموسوي، من دون تمحيص بلهو المستعصم مع جاريته ليلة السقوط، أو عدم دفع رواتب الجند المسلمين شهوراً، أو غياب الخطط الدفاعية، والتركيز على ما سُمّي "خيانة" الوزير العلقمي من غير تدقيق حتى لمحتوى المفاوضات التي جرت بينه وبين التتار، وهي تدل على عقل يستغرق في ذاته ويبحث عن أسباب خارجة عن إرادته وفعله، والتهرّب من مواجهة أخطائه.
أما مدَن فاستكان إلى مغالطة أساسية في معرض انتقاده لبنية التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى في منطقة الخليج والجزيرة العربية، وإن هدَف، بحسب ورقته، إلى التركيز على تاريخها الثقافي، فذهب إلى التأكيد على أن الجزيرة عانت عزلة وثباتاً وجموداً وركوداً مديداً لقرون، وأنه لا يمكن دراسة التاريخ في حواضرها وباديتها إلاً استناداً إلى حدثين مفصليين؛ هما: ظهور الإسلام، واكتشاف النفط، مغفلاً عوامل التنوّع في الجغرافيا والتاريخ والثقافة التي لا تتبدّى بلا تضاريس، على حد قوله.
يُسقط مدَن أكثر من ألف سنة من التاريخ ضمن ورقته "التحقيب في الثقافة العربية"، مؤكّداً أنه "لو لم يظهر النفط لظلّ الخليج معزولاً عن أي تطوّر اجتماعي بعد ظهور الإسلام"، في إحالة إلى رؤية استشراقية تلتقي مع أطروحات إسلامية ترسّخ قطيعة مع ما قبل الإسلام، باعتباره هامشياً، ويتوافق مع القراءات ذاتها بأن انتقال الحكم من الحجاز إلى الحواضر العربية أنهى آفاق التغيير، وبذلك يكون التاريخ تاريخَ سلطة لا غير.
"تحقيب الأدب العربي لدى المستشرقين" كان عنوان ورقة الأكاديمية غادة خليل من الأردن، وحصرت حديثها في استعراض، يخلو من أية ملاحظات وتعليقات، لتصنيف المستشرقين الأوائل تحديداً، (لم تتطرّق إلى آراء الاستشراق "الجديد" و"المصقول") للأدب العربي إلى أدب جاهلي، وصدر الإسلام، وأموي، وعباسي؛ تحقيبٌ عماده وأساسه هو تغيّر السلطة والحاكم، والتعبير عن رغبة المستشرقين في السيطرة على تاريخنا ورسم صورتنا أمام أنفسنا. ورغم ردودها المؤكّدة على ضرورة الأخذ بالعوامل الفنيّة وحضور المكان وغيرها في الأدب، لكنها بقيت مقولةً بلا تفصيل لديها.
محمد الشحات، أستاذ الأدب الحديث، خلص في ورقته "كيف تتعامل النظريات الحديثة مع تاريخ ثقافة أوروبا" إلى أن الممارسات النقدية أو الفكرية، الواعية بسياقات النشوء وتحوّلاتها المفاهيمية، من شأنه أن يفتح آفاق النظرية المحدودة على تاريخ آداب العالم، حتى لا تصبح النظرية النقدية منتجاً محلّي الصنع، أو حكراً على تاريخ ثقافة أوروبا وحدها.
ورأى في الجلسة الأخيرة أن أفضل مثال على ذلك مجموعة النقّاد والباحثين القادمين من بلدان العالم الثالث والشرق الأوسط، الذين أسهموا في فضاء النظرية العالمية بأشكال شتّى، وأن ثمة تاريخاً جديداً لأدب العالم تتشكّل ملامحه وتياراته، مضيفاً أن للأفارقة والآسيويين نصيباً واضحاً فيه، ستكشف عنه السنوات المقبلة.
في الجلسة ذاتها، تحدّث الشاعر والصحافي اللبناني عبده وزان في ورقته "ميشيل فوكو والتاريخ"، معتبراً أن فكرة مقولة التاريخ تبدّت في عناوين عدة من مؤلّفات المفكّر الفرنسي حول محاور ثلاثة يرتكز إليها الخطاب متعدّد الحقول؛ الأول هو نقد التاريخ كمفهوم أفقي ومتواصل ونقد الخطاب الذي حوّله المؤرّخون إلى تاريخ نُصبي هائل، وهذا ما جعل فوكو يتّكئ على النزعة النقدية النيتشوية ويتبنى مقولة الجينالوجيا التي مثّلت قاعدة نيتشه النقدية، والثاني يقوم على ما يسمّيه فوكو "فكرة الحدث"، والثالث هو العمل التوثيقي أو الأرشيفي، وفيه يشارك فوكو مؤرّخين اعتمدوا هذا المنهج التاريخي.